هل وقع منك ارتباط العرب بالقضية الفلسطينية؟
هذا خبر وقعت عليه
بالصدفة، ولم تشر إليه أية صحيفة عربية أو غير عربية: حل أمس
الثلاثاء ـ التاسع والعشرون من نوفمبر ـ اليوم العالمي للتضامن
مع الشعب الفلسطيني، الذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة
قبل اكثر من ثلاثة عقود ونصف. إذ مرت المناسبة دون ان يشير
أليها أحد بكلمة، حتى في أوساط السلطة الفلسطينية ذاتها، ولمن
نسي أو التبس عليه الأمر فيوم التاسع والعشرين من نوفمبر هو
يوم صدور قرار تقسيم فلسطين في عام 1947، الذي أضاف إلى تاريخ
الأمة العربية صفحة سوداء، لانزال نعاني من آثارها حتى اليوم.
كنت أحد الذين سقطت
المناسبة من ذاكرتهم، ولكن الذي حدث أنني حضرت في العاصمة
الأردنية عمان مؤتمرا دعا إليه مركز دراسات الشرق الأوسط حول
العرب وإسرائيل في عام 2015 ـ السيناريوهات المحتملة، وتحدد
موعد المؤتمر فيما بين الأحد 27 نوفمبر والثلاثاء 29 منه.
وأثناء المناقشات التي جرت حول الموضوع، أشار أحد المتحدثين
إلى أن يوم التاسع والعشرين هو موعد اليوم العالمي للتضامن مع
الشعب الفلسطيني، الذي قررته الأمم المتحدة ونسيه الجميع بمضي
الوقت، وفهمت من الأستاذ جواد الحمد مدير المركز الراعي أنهم
أرادوا أن يعلنوا عن تلك السيناريوهات في توقيت متزامن مع
المناسبة.
لم أكن الوحيد الذي
فوجئ بالخبر، لأن اكثر من واحد بدا لهم الخبر مفاجئا أيضا،
الأمر الذي كشف النقاب عن حالة سكوت عليها تمثلت في تراجع
الاهتمام العربي بأولوية القضية الفلسطينية (لا تسأل عن
الاهتمام الدولي). وهي حالة تعكس بؤسا ليس فقط في الوعي
بالتاريخ، ولكن أيضا في الوعي باستحقاقات الحقوق المهدورة،
ومسؤوليات الدفاع عن الأمن القومي العربي.
في تزامن لا يخلو من
دلالة، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان يوم السابع
والعشرين من يناير (كانون الثاني) يوما دوليا سنويا لاحياء
ذكرى ضحايا محرقة اليهود (الهولوكوست) التي تعرضوا لها تحت
الحكم النازي قبل ستين عاما، وكانت إسرائيل قد سعت طيلة
السنوات الماضية إلى استصدار قرار بهذا المضمون، ولكن معارضة
الدول العربية وأغلب الدول الإسلامية عوقت صدوره، لم تمل
إسرائيل وكررت المحاولة اكثر من مرة، حتى نجحت فيها هذه المرة
الأخيرة، وتم التصويت عليه بالإجماع في الأسبوع الأول من شهر
نوفمبر، رغم تحفظ بعض الدول العربية.
لن أخوض في المقارنة
بين ما الذي سيفعله الإسرائيليون والدول الغربية على الأقل في
اليوم العالمي للمحرقة اليهودية، وبين الذي جرى لليوم العالمي
للتضامن مع الشعب الفلسطيني، فالنتيجة معروفة سلفا، ولكن ما
يهمني هو إجابة السؤال: لماذا تراجعت أولوية القضية الفلسطينية
في الوجدان العربي، حتى تحولت خبرا من الدرجة الثانية أو
الثالثة؟
هناك اكثر من رد. فقد
يقول قائل بأن أحداث العراق خطفت الأضواء واستأثرت بالاهتمام
منذ ثلاث سنوات، وهذا صحيح إلى حد ما، وربما قال آخر إن
الولايات المتحدة نجحت في فرض قضية الإرهاب على رأس أولويات
العالم العربي ـ والعالم قاطبة ـ وهذا أيضا صحيح على حد كبير،
وقد يقول ثالث بأن إسرائيل نجحت في إيهام الجميع بأنها ماضيه
في التسوية، رغم ما يشوبها من تعثر، وهو ما يشهد به سحب قواتها
من قطاع غزة، وهو ما يعني أن ثمة شيئا يتحرك للأمام في فلسطين،
الأمر الذي يسوغ الالتفات إلى أمور أخرى وذلك بدوره وهم نجحت
إسرائيل في تسويقه، على الأقل في الأوساط الغربية.
غير أن ثمة عنصرا
بالغ الأهمية مسكوتا عليه، هيأ مناخا مواتيا لتفعيل العوامل
السابقة، وبالتالي كان له الدور الأكبر في تراجع أولوية القضية
الفلسطينية، وهو الذي يتمثل في ضعف ممانعة الدول العربية
ذاتها، إلى الحد الذي جعلها اكثر استجابة للضغوط الأميركية،
وأقل مقاومة للممارسات والتطلعات الإسرائيلية، وهو ما جعلها
تفرط في أمور كثيرة تخصها، وكانت القضية الفلسطينية من ضحايا
ذلك التفريط المحزن.
في هذا الصدد، فلا
مفر من الاعتراف بأن العالم العربي يمر الآن بمرحلة من أسوأ ما
شهده في تاريخه المعاصر، حتى أزعم أن الوضع الراهن أسوأ مما
كان عليه الحال في أعقاب هزيمة 67، لأن الهزيمة التي قصمت ظهر
الأمة لم تنل من إرادتها، ولم تفت في عزيمتها، أما المشكلة
الراهنة فقد استمرت في ظلها الهزيمة السياسية والحضارية، في
حين غابت الإرادة، وحين تحدث الرئيس المصري أنور السادات قبل
ربع قرن عن أن 99% من الأوراق في يد الولايات المتحدة، فإن ذلك
كان إشهارا شبه رسمي لعدم الممانعة، وتسليما مبكرا فتح شهية
الإدارة الأميركية لاستثمار تلك الحالة، وإذا كان رأي السادات
معبرا عن وجهة نظره الشخصية في ذلك الوقت، فإن ذلك الرأي تحول
بمضي الوقت إلى «مدرسة» خرجت اكثر من جيل بين عناصر النخبة
اسهم في ذلك لا ريب ما شهدته الساحة الدولية من تحولات في
أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، الأمر
الذي أدى إلى غياب القطب الدولي الآخر، واستقرار الولايات
المتحدة بموقع الصدارة في إدارة شؤون العالم، ذلك أن الرئيس
السادات إذا كان قد سلم بأن 99% من أوراق «اللعبة» في أيدي
واشنطن، في وجود الاتحاد السوفيتي فلك أن تتصور منطق مؤيديه
ورؤيتهم لمدى النفوذ الأميركي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وفي
غيابه.
النخب السياسية التي
هيمنت على مقدرات الأمة حين فقدت مناعتها ضد الهيمنة
الأميركية، فإنها اعتبرت أن الانصياع لواشنطن هو الأصل، ووفر
ذلك مناخا مواتيا لظهور الأصوات المعبرة عن الضيق بالانتماء
العربي، والنفور من كل عمل عربي مشترك، حتى فيما يخص أمن الأمة
ومصيرها، وكان شعار «نحن أولا» الذي أجتاح عواصم عربية عدة،
تعبيرا عن ذلك الضيق والنفور.
ولعلي لا أبالغ إذا
قلت انه في اللحظة التي رفع فيها ذلك الشعار في الأفق العربي،
تراجعت على الفور أولوية القضية الفلسطينية بشكل تدريجي، وكانت
تلك مقدمة لتغير الإدراك والنظر، حيث لم تعد القضية صراعا
عربيا فلسطينيا، ولكنها باتت صراعا فلسطينيا إسرائيليا، وهو ما
صرح به أحد المتحدثين في مؤتمر عمان الذي أشرت إليه، بالتالي
فإن العمق العربي لم يعد ينطلق من التصدي لقضية تهدد أمن الأمة
ومستقبلها، ولكنه صار تعبيرا عن التضامن مع «الأشقاء» في
فلسطين، ولم يعد الجهد تعبيرا عن الدفاع عن الذات والمستقبل،
ولكنه صار نوعا من الشهامة والنخوة التي تقتضي مد العون للشقيق
والأخذ بيده في ظروف الشدة التي يعاني منها.
هذه الإشارة التقطها
شارون وتصرف على أساسها حين قرر الانسحاب من غزة من طرف واحد،
بدعوى أنه لا يجد طرفا فلسطينيا ولا طرفا عربيا يبحث معه
قراره.
وهو لم يكتف بذلك
وإنما قفز فوق الفلسطينيين والعرب أجمعين، وتشاور مع واشنطن في
الموضوع، باعتبارها الطرف الذي يمكن التحدث معه في شأن القضية
الفلسطينية والشرق الأوسط.
في ظل «فك الارتباط»
بين العرب والقضية الفلسطينية، (المصطلح استخدم في مؤتمر عمان
أيضا) استفرد بها الإسرائيليون مدعومين بالأميركيين، وعملوا
جاهدين على محوها خطوة خطوة، وبلغت المأساة ذروتها حين توافق
الجميع على أن «خطة الطريق» هي طوق النجاة وهي الحل للقضية، في
حين ان الخطة اشترطت في بندها الأول تركيع الفلسطينيين بدعوتها
إلى ضرورة تجريد المقاومة من السلاح، الأمر الذي يطالب
الفلسطينيين برفع الرايات البيضاء قبل أي حديث في التسوية
المفترضة!
إذا كان ذلك هو موقف
النخب العربية من القضية، فلا غرابة إذن في أن تنسى تلك النخب
يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، ولا نريد أن نذهب في التشاؤم
إلى الحد الذي يصور لنا أجيالا تظهر بعد سنوات لتسائلك ماذا
يعني الشعب الفلسطيني وأين عاش على الأرض العربية!
مثل هذه الاحتمالات
البائسة يمكن أن تهيمن على إدراكنا إذا ما قصرنا النظر على
رؤية النخب المستسلمة والمهزومة، لكن ذلك الشعور يختلف تماما
إذا ما حولنا زاوية النظر وتطلعنا إلى الشعوب العربية التي لم
تمح ذاكراتها، ولم يتلوث وجدانها، وأثبتت مختلف الشواهد أن
نقاءها كما هو، وأن حساباتها لم تتلون ولم تتأثر بالأهواء أو
المصالح، ورغم ما يبذله خطاب النخب من جهد لطمس معالم القضية
في الشارع العربي، والإلحاح على شعار «أنا أولا»، فإننا نفاجأ
بين الحين والآخر، ـ وفي أعقاب كل حدث أو مناسبة فلسطينية ـ
بأن شعوبنا تسارع بإعلان غضبها وهي متحفزة ومستنفرة، الأمر
الذي يحيي فينا الثقة والأمل ويبدد سحابات اليأس التي ما انفكت
تتجمع في فضائنا، وهو ما يدعونا لأن نتطلع بكل الشوق لتلك
اللحظة التي تصبح فيها شعوبنا هي صاحبة الكلمة والقرار في شأن
مصيرنا ولا تسألني عن متى تحين تلك اللحظة، لأن كل واحد منا
مسؤول عن استدعائها. |