مستقبل دور مراكز الدراسات والمعلومات
الوطنية والقومية فى الصراع حتى عام 2015
د.
محمد السعيد إدريس
عودة للصفحة
إذا اتفقنا على تعريف الصراع العربى –
الصهيونى على أنه صراع حضارى بين المشروع النهضوى العربى والمشروع الصهيونى
– الإمبريالى على أرض وطننا العربى، فإن مراكز الدراسات والبحوث والمعلومات
تعتبر من ناحية أداة من أهم أدوات هذا الصراع فى أصعب حلقاته وأكثرها
تعقيداً، أى صراع الأفكار والرؤى والاستراتيجيات وفى المجمل صراع الإرادات،
وهى من ناحية أخرى تعتبر من أهم مؤشرات ومعايير تقييم جدية انخراط العرب فى
هذا الصراع وإدارته، فبقدر اعتماد الدول العربية، وعلى الأخص الدائرة
الضيقة المعنية بصنع القرارات الكبرى وإدارة السياسة العامة، على مراكز
البحوث والدراسات فى صنع واتخاذ القرارات، بقدر ما يمكن الحكم على جدية
وقدرة هذه الدول فى إدارة الصراع العربى – الصهيونى.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول أنه بقدر ما
تعتمد الدول على مراكز الدراسات والبحوث والمعلومات فى إدارة الصراع، بقدر
ما تكتسب هذه الإدارة الجدية والجدارة، وبقدر اكتساب هذه الجدية والجدارة
يكون الاعتماد على مراكز الدراسات والبحوث والمعلومات على المستويين الوطنى
والقومى فى إدارة الصراع.
هذه الأهمية الكبرى لمراكز الدراسات
والبحوث والمعلومات ودورها فى صنع السياسة العامة وعلى الأخص صنع قرار
السياسة الخارجية اكتسبتها هذه المراكز على مراحل متعددة وعلى الأخص فى
الدول المتقدمة، وأضحت عنواناً للتقدم وأحد مؤشراته ومن ثم فإن التعرف على
مستقبل دور مراكز الدراسات والبحوث والمعلومات العربية فى إدارة الصراع
العربى – الصهيونى يستلزم أولاً، التعرف على هذه المراكز وعلى دورها
المتصاعد فى صنع القرارات وصنع السياسة العامة، ثم التعرف على الشروط
اللازمة لنجاح دور هذه المراكز، كخلفية مهمة لاستشراف حدود دور مراكز
الدراسات والبحوث العربية فى إدارة الصراع ومستقبل هذا الدور.
ثمة أدوار أساسية خمسة تقوم بها المراكز
البحثية: فهى أولاً، مراكز صناعة الأفكار والأهداف والوسائل التى
تخص السياسة الخارجية. فوظيفة المراكز البحثية إعداد السبل لتحقيق المصالح
واختيار أفضل وسائل التطبيق. كما تقوم المراكز البحثية بكسر الحواجز بين
العمل الأكاديمى النظرى وبين العمل السياسى التطبيقى لصناع القرار.
وتقوم ثانيا، بإمداد الإدارة
السياسية بالموظفين اللائقين علميا وعمليا لتطبيق السياسة الخارجية، ويعد
هذا من التأثير المباشر لها، فأفرادها والعاملون بها يقومون بالعمل
التطبيقى للسياسة الخارجية فى الإدارات السياسية.
وتجرى المراكز البحثية ثالثا، حلقات
نقاش عن المبادرات والسياسات المطروحة عن طريق عقد اجتماعات بين ممثلى
الإدارة السياسية وأعضاء المراكز وأصحاب الشركات الكبرى وكبار الأكاديميين
من أجل معرفة أثر السياسة الخارجية على مصالح الدولة ومدى فعاليتها، وفى
حالة فعاليتها تقوم المراكز بحشد الدعم لتلك السياسة بين مختلف المؤسسات أو
معارضة تلك السياسة فى حالة إضرارها بهذه المصالح.
وللمراكز البحثية رابعا، تأثير غير
مباشر من خلال نشر الوعى الثقافى بين أفراد المجتمع بأهم القضايا الدولية.
ويتم ذلك عن طريق كتابة مقالات ودراسات بالصحف الكبرى وإصدار الكتب
والدوريات والظهور فى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لخبراء المراكز.
وتتدخل المراكز البحثية خامسا،
تدخلاً مباشراً فى بعض القضايا الدولية كمؤسسة فاعلة تهدف إلى تحقيق بعض
النتائج بالتنسيق مع الإدارة السياسية.
وبالتطبيق على الواقع العربى سوف نجد أن
البيئة المحيطة غير مواتية لتفعيل دور مراكز البحوث والدراسات، فأغلب الدول
العربية تعانى من نقص هائل فى الاستثمار فى التعليم والبحث العلمى، حيث
تنظر الحكومات العربية إلى هذا النوع من الاستثمار على أنه إنفاق هامشى
ونشاط ترفى يجرى إنفاق بعض الأموال عليه من أجل الوجاهة الاجتماعية
الإقليمية والدولية، وليس من أجل تحقيق إنجازات علمية وتقنية حقيقية. ومن
الطبيعى فى ظل الإنفاق المحدود على البحث والتطوير العلميين أن تظل مصر
وغيرها من الدول العربية معتمدة على التقنيات الحديثة المنتجة فى الدول
الأكثر تقدما، وتابعة لهذه الدول فى هذا المجال. ومن البديهى أن الدول التى
لا تسهم فى الإنجازات العلمية والتقنية العالمية لا يمكنها أن تحصل على
أحدث التقنيات الإنتاجية، وإنما تحصل عادة على تقنيات من الدرجة الثانية
والثالثة؛ لأنها ببساطة لا تملك ما تتبادله من إنجازات علمية وتقنية مع
الدول الأخرى المبدعة الفعلية لمثل هذه الإنجازات.
وإضافة إلى ذلك، تفتقر الدول العربية إلى
البيئة العلمية المناسبة، فالمناخ العام للبحث العلمى ليس منتجاً للتقدم،
لذلك فإن ما هو موجود فى الوطن العربى من مراكز ومعاهد ومؤسسات بحثية، مع
ندرتها، لا يحمل أكثر من مجرد الأسماء، إلا فيما ندر، لأسباب كثيرة منها ما
أشرنا إليه بخصوص التمويل الكافى للعملية البحثية، ومنها أيضاً الاستقلالية
المالية والإدارية عن الحكومات، فأغلب مراكز البحوث والدراسات العربية
تابعة بشكل أو بآخر للحكومات نظراً لعزوف القطاع الخاص عن احتضان وتأسيس
المراكز العلمية والبحثية، ومنها المناخ السياسى غير الموات للعملية
البحثية بسبب غياب الديمقراطية والافتقار إلى الحريات وإلى الشفافية فى
التعامل مع حرية تداول المعلومات، واحتكارية السلطة التى تجعل نظم الحكم
سلطوية وشخصانية بما يكفى لتهميش أى دور استشارى أو ترشيدى لمراكز البحوث
فى عملية صنع القرارات وفى مقدمتها قرارات السياسة الخارجية.
وبسبب هذه الخصوصيات لا توجد فى
العالم العربى رغبة حقيقية فى بناء قاعدة بحثية علمية حقيقية. لا توجد
إرادة سياسية لفعل ذلك، ولا يوجد قرار سيادى يدرك أهمية الإنفاق فى البحث
العلمى، والسلطة السياسية لا تعترف بدور مراكز البحوث والدراسات فى صنع
القرارت وفى صنع السياسة العامة.
لهذه الأسباب مجتمعة تدنت مكانة
الدور المنوط بمراكز البحوث والدراسات، وتقلصت اهتمامات إنشاء مثل هذه
المراكز والمؤسسات الفكرية والعلمية ومن ثم لم تكن طرفاً فاعلاً فى إدارة
الصراع مع الكيان الصهيونى، الذى أعطى أولوية كبيرة للاستثمار فى التعليم
والبحث العلمى وتأسيس المراكز العلمية والبحثية، فضلاً عن إشراكه هذه
المراكز فى عملية صنع السياسة العامة وإدارة الصراع مع الدول العربية
وبالذات فى مجال اختراق العقل العربى فى محاولة لنزع العداء من الوجدان
والعقل والذاكرة العربية كضرورة لنزع الأسلحة المقاومة للمشروع الصهيونى
لدى الشخصية العربية.
فتحت دعوة التطبيع الثقافى قامت مراكز
البحوث والدراسات الإسرائيلية بدور رائد فى اختراق العقل والوجدان العربى
لترويضه على القبول بالكيان الصهيونى والتعاون معه على حساب الحقوق
والثوابت العربية، وطرح ثقافة السلام كبديل لثقافة المقاومة التى كانت قد
اعتمدتها منظمات المقاومة الفلسطينية ودول عربية أعطت أهمية مركزية ومحورية
للقضية الفلسطينية على أجندتها الوطنية.
وهكذا تجد مراكز البحوث
والدراسات العربية نفسها أمام مأزقين: أولهما، مأزق مجتمعى لا يعترف
بمكانة العلم والعلماء والبحث العلمى. وثانيهما، مأزق التخلف
السياسى فى إدارة الصراع مع الكيان الصهيونى وانحراف دور بعض نظم الحكم فى
اتجاه التطبيع وعقد اتفاقيات تعاون رسمية أو غير رسمية مع الكيان الصهيونى
على حساب الالتزامات العربية نحو القضية الفلسطينية التى تراجعت مكانتها من
قضية مركزية للعرب إلى قضية هامشية فى أحسن الأحوال، لكنها وصلت بالفعل إلى
درجة أنها أصبحت عبئاً غير مرغوب فيه من جانب كثير من الحكومات العربية
التى ربطت مصيرها بالعلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وتعتبر أن
إسرائيل هى الباب الأرجح إلى قلوب وعقول الأمريكيين.
مجمل ما سبق يكشف أن دور مراكز البحوث
والدراسات السياسية العربية على وجه العموم وليس على وجه التخصيص بالنسبة
للصراع العربى – الإسرائيلى يبقى محكوماً بمستوى التطور والتقدير العربى
على محورى التقدم المادى العلمى والصناعى والاقتصادى والتقدم السياسى
الديمقراطى والليبرالى. فالسؤال عن حال مراكز البحوث والدراسات العربية عام
2015 تتوقف إجابته بالقطع على حال المجتمعات العربية وتوافر الشروط اللازمة
للنهوض بدور مراكز البحوث والدراسات وبالتحديد شرط التمويل الوافر والمستقل
والمتحرر من أية ضغوط أو إملاءات سلطوية أو خارجية، وشرط النهوض المجتمعى
اقتصادياً وسياسياً باتجاه الديمقراطية والليبرالية أى كفالة مؤسسات الحكم
الديمقراطى وتأمين الحريات الديمقراطية والحقوق الاجتماعية الكفيلة بخلق
وتوفير البيئة الملائمة لإنتاج العلم والمعرفة.
على هذا النحو، يمكن القول أن ثمة عوامل
رئيسية ثلاث تحكم مستقبل دور مراكز البحوث والدراسات العربية فى الصراع
العربى – الإسرائيلى حتى عام 2015: أولها، مسيرة التقدم الاقتصادى
والاجتماعى والديمقراطى فى الدول العربية. فإذا قرأنا بتمعن الأداء السياسى
الراهن فى الدول العربية سوف نجد أن التحولات السياسية والديمقراطية فى
الدول العربية تحدث بمعدلات بطيئة، والنتيجة هى أن المناخ الديمقراطى سيبقى
غير مواتياً لتفعيل دور مراكز البحوث والدراسات، فضلاً عن أن التعثر فى
العملية السياسية سيؤدى إلى عدم حدوث تحولات نوعية فى أدوار مراكز البحوث
والدراسات داخل أقطارها، بمعنى أن أولوية هذه المراكز لدى صانع القرار
العربى ستبقى محدودة، الأمر الذى سيجعل هذه المراكز رهن الدعم والتحويل
الخارجى بكل ما يعنيه ذلك من انحراف فى أدوارها الوطنية والقومية وبالذات
بالنسبة للصراع العربى – الإسرائيلى باتجاه خدمة دعوة التطبيع على حساب
ثقافة المقاومة.
وثانيها،
مستقبل النظام العربى ومستقبل الدولة الوطنية (القطرية) العربية ومكانة
القضية الفلسطينية بالنسبة لهذا النظام، حيث تؤكد مجمل الظروف التى يمر بها
النظا العربى أن دعوات تغييرية ودعوات مراجعة هائلة سوف تحدث على صعيد
الثقافة السياسية العربية وعلى صعيد التنظير للنظم السياسية العربية فى
اتجاه النيل من مكانة الدولة الوطنية العربية وطمس دعوة الوحدة العربية
وهويتها القومية والتنظير لدويلات طائفية وعرقية ودينية ونظام إقليمى بديل
طالما كانت الدولة الإسرائيلية تحلم به لفرض حلم إسرائيل العظمى بقدرتها
على التأثير والنفوذ كبديل لحلم تراجع هو "إسرائيل الكبرى" الممتدة
جغرافياً من الفرات إلى النيل، ولعل فى استعداد الكثير من الدول العربية
إلى الهرولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل فى هذا الوقت بالذات الذى يشهد فيه
العراق حرباً طاحنة حول وحدته وهويته ما يؤكد هذا الاستنتاج وهو أننا أمام
واقع جديد يتخلق فى عالمنا العربى سيفرض نفسه أو سيتداعى وفقاً لنتائج
الحرب الحقيقية الدائرة فى العراق حول الوطن العراقى الموحد وهويته القومية
العربية.
أما ثالث هذه العوامل وربما أهمها
فيتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية الذى سيكون محدداً فى أحد احتمالين:
الأول، هو التداعى الكامل أمام المشروع الصهيونى، وهو تداعى سيكون
متزامناً ومترافقاً مع تداعٍ وسقوط للنظام العربى أمام المشروع الأمريكى –
الصهيونى. والثانى، هو تجدد الانتفاضة بل وولادة الانتفاضة الأهم فى
حياة الشعب الفلسطينى وهى انتفاضة لابد أن تكون مقترنة مع انتفاضة أخرى على
المستوى العربى تثور فيها جماهير عربية للتخلص من نظم حكم أهدرت مقدسات
الأمة وانخرطت فى مشاريع مع الأعداء لا لشئ إلا لمزيد من احتكار السلطة
والثروة.
هنا يتحدد مستقبل دور مراكز
البحوث والدراسات العربية فإما أن تكون أداة تطويع لإرادة الصمود العربى
والانخراط فى مشروع التردى والاستسلام، وإما أن تكون أداة نهوض لإحياء خيار
المقاومة فى وجه خيار الاستسلام.
أعلى الصفحة
عودة للصفحة |