عناصر القوة وعناصر الضعف على جانبي الصراع وديناميات التفاعل داخلياً
وخارجياً
د. طلال عتريسي
عودة للصفحة
منذ نشوء الكيان الصهيوني قبل نحو نصف قرن على ارض فلسطين وفي قلب المنطقة
العربية والطرفان العربي والاسرائيلي يبحثان بشكل متواصل ومن دون هوادة عن
أفضل السبل لانهاء هذا الصراع حربا" أو سلما". وسوف يحاول كل طرف من طرفي
الصراع ان يحشد عناصر القوة التي تسمح له إما باللجوء الى الحرب وأما
بالذهاب نحو التفاوض والسلام مع الطرف الآخر. وسوف يقع الاختلاف في مكونات
تلك العناصر وتأثيرها في الصراع بين الحكومات العربية نفسها وبينها وبين
الشعوب والمنظمات والحركات السياسية باتجاهاتها المختلفة.بين من سيرى تلك
العناصر
من الجانب العربي في الوحدة أولا" ، أو في التنمية الداخلية، أو في اطلاق الحريات
والديمقراطية. وبين من سيرى في نقاط القوة التحالف مع الاتحاد السوفياتي
السابق، أو مع الولايات المتحدة التي "تملك كل أوراق التأثير" على ذلك
الصراع . في حين سيعتبر الطرف الإسرائيلي أن عناصر القوة هي في التفوق
العسكري وفي الحرب الخاطفة أو في السلام المنفرد أو في التطبيع، في حين أن
عنصر الضعف في المشروع الصهيوني أنه بات في أزمة وأن دولة اسرائيل لم
تستطع المحافظة على قدرة الردع وأن التهديد الديمغرافي سيغير مستقبلا" من
هوية الدولة ومن يهوديتها.
إن أي دراسة لعناصر القوة وعناصر الضعف في هذا الصراع التاريخي سوف تسمح
لنا باستنتاج جوهري مفاده ان هذه العناصر لم تكن دوما" على وتيرة واحدة من
التقدم أو من الثبات بالنسبة الى الطرفين. ولو كان الأمر كذلك كما يذهب بعض
المفكرين أو المحللين العرب الذين يعتبرون أن نقاط الضعف كانت على الدوام
من الثوابت العربية ، لكان من المفترض أن ينتهي هذ الصراع منذ زمن.
كما أن المواجهة في اطار تراكم عناصر القوة لم تكن مواجهة بين عادية بين
طرفين متساويين. فالطرف الأول الذي هو اسرائيل كان يحمي نقطة ضعفه الشرعية
(احتلال الأرض) بدعم دولي قانوني وعسكري وسياسي. أما الطرف الآخر العربي
–الفلسطيني فكان عند تأسيس ذلك الكيان الغريب عن المنطقة وهويتها وتاريخها
إما تحت الاحتلال المباشر واما على اعتاب الاستقلال. ولم تكن قوة الحق أو
قوة التفوق السكاني العربي لتوازي عناصر القوة عند العدو، نظرا" لإرث
التفكك الذي تركه الاحتلال في الدول العربية ولانشغال كل دولة بتثبيت
"شرعيتها" و"أنظمتها الحديثة" التي نشأت بعد الاستقلال. وهكذا كانت قضية
فلسطين قضية "اعتراضية" من خارج سياق الانتقال من الاحتلال الى الاستقلال
بالنسبة الى العرب. في حين كانت قضية "اسرائيل" من داخل سياق مشروع
استراتيجي بدأ الاعداد له منذ عشرات السنين، ثم أبصر النور بحماية دولية
غير معهودة. أي أن المواجهة لم تبدأ قبل أكثر من نصف قرن بين مشروعين عربي
وآخر إسرائيلي. لذا فإننا نعتقد بأن أهم ملامح تبين عناصر القوة وعناصر
الضعف في هذا الصراع إنما تعكسها تلك التي نلاحظها بالدرجة الأولى عند
الطرف الإسرائيلي، لأنه صاحب مشروع قام على الاعتداء والهجوم والاستيطان في
حين كان المشروع المقابل مشروعا" دفاعيا"، مهما قيل في شروط ذلك الدفاع، أو
في عدم الاستعداد الملائم له.. وهذا يعني أن مقياس البحث في عناصر القوة
وعناصر الضعف بالدرجة الأولى هو الاجابة عن اسئلة من نوع: ماذا تحقق من
المشروع الصهيوني؟ والى أين وصل هذا المشروع الذي كان يريد أن تمتد حدود
دولة اسرائيل من الفرات الى النيل، وأن تكون هذه الدولة هي دولة اليهود في
العالم؟ وما هو مستقبل اسرائيل ومستقبل المشروع الصهيوني نفسه؟
كما يعني ما تقدم أن المقارنة بين ما تحقق من المشروع الصهيوني وبين ما
تحقق من المشروع العربي (الوحدة-التحرير-الحرية-الاشتراكية..) ليس عادلاً
أو منطقياً. لأن بداية السباق لم تكن أصلا" متكافئة بين الطرفين.
إن الحديث عن نقاط الضعف العربية في هذا الصراع ليس جديداً. وبعضها له
علاقة بموازين القوى الدولية وبالصراع بين الدول العظمى على منطقة الشرق
الأوسط خاصة إبان الحرب الباردة. والبعض الآخر له علاقة بالحكومات العربية
نفسها التي لم تجعل الاستعداد للحرب من أجل فلسطين أولوية فعلية على
المستويات كافة.بل انشغلت تارة بالاستيلاء على السلطة ، وتارة بتثبيت تلك
السلطة وابعاد المعارضين لها... وقد حصل ذلك كله في معظم الاحيان تحت شعار
فلسطين والتحرير والوحدة. وقد اختلفت التقديرات في نقاط الضعف العربية بين
مرحلة وأخرى. فبالإضافة إلى الاختلاف حول أولويات نقاط القوة كالوحدة أو
التحرير ، كان البعض يذهب الى ان التحالف مع الاتحاد السوفياتي هو أحد اهم
عوامل القوة في الصراع ، في حين كان يقول آخرون بأن التخلص من الانظمة
الحاكمة واسقاطها هو عامل القوة الذي لا يمكن التقدم نحو التحرير من دونه.
أو أن فتح الحدود والجبهات والحرب الشعبية هو الذي سيحسم الصراع . ثم طويت
هذه الدعوة، وقيل بأنها لاتخدم القضية... وفي مراحل لاحقة اعتبرت الظاهرة
الاسلامية من عناصر الضعف والتخلف في مشروع المواجهة مع العدو. ثم اعتبرت
في مرحلة أخرى من عوامل القوة . ثم ربطت بعض الدراسات بين التنمية الشاملة
وبين عوامل القوة . ثم بين وضع المرأة والقوانين التي تخضع لها في الدول
العربية وبين التقدم في مجالات المواجهة والصراع.أو بين مناهج التعليم وبين
التخلف عن المواجهة الحضارية التي يعتبرها البعض الى جانب التقدم
التكنولوجي اساس التمكين في الصراع قبل المواجهة العسكرية، استنادا" الى
التقدير الذي يعتبر ان تفوق العدو إنما هو تفوق تكنولوجي ومعرفي قبل أي
تفوق آخر. والى جانب هذه الرؤى المتفاوته لتقدير عوامل القوة وعوامل الضعف
ثمة من كان يشدد دائما" على أهمية المقاومة باعتبارها من ثوابت القوة التي
لا تتغير، مهما تغيرت وتيرتها .أما بعد التطورات الأخيرة في العراق
والانسحاب الاسرائيلي من غزة فإن المخاوف تكمن في تحويل نقاط القوة الى
نقاط ضعف جديدة إما عبر الفتن المذهبية التي ستعيث في الارض فسادأ ، وإما
عبر الاقتتال الاهلي الفلسطيني الذي سيحول التراجع الاسرائيلي الى هزيمة
فلسطينية... إلى المخاطر التي قد تنجم عن تطويق المقاومة في لبنان ،أو نزع
سلاحها، وما قد يعنيه ذلك من تراجع لمنطق القدرة على استمرار المواجهة مع
العدو ...أو لتعزيز منطق انهاء الصراع من دون مقاومة.
أما المشروع الإسرائيلي، فلم يتعرض من جانب الاسرائيليين للهجوم أو للنقد
أو للتركيز على نقاط ضعفه ، خاصة في السنوات الاولى لنشوء دولة اسرائيل .
فقد كان الشعور بالحاجة الى التضامن
السياسي والايديولوجي أقوى من الأسئلة والشكوك. إلا أن البحث في نقاط الضعف
الاسرائيلية بدأ يصبح أكثر وضوحا" بعد حرب العبور في تشرين عام 1973عندما
نجح العرب في شن حرب مفاجئة على العدو. وفي زعزعة مفهوم الجيش الذي لا
يقهر واسطورتهثم تتالى بعد ذلك وصولا" الى الانسحاب من جنوب لبنان ثم من
غزة. في مقابل ذلك كان التركيز العربي ينزع في بعض الاحيان الى تضخيم قوة
اسرائيل بحيث يستنتج الانسان انه يستحيل قتالها، أو أن هذا القتال المفترض
يحتاج الى سنوات طويلة من الاعداد أو أنه يحتاج الى السلام والتصالح مع هذه
القوة في حين كان بعض التحريض العربي ضد اسرائيل يستهدف جذب الرأي العام
،أو تبرير سياسات الحاكم الداخلية او الخارجية.
أما عناصر القوة الاسرائيلية فمعروفة ولا تحاج الى الكثير للبرهان عليها.
فإسرائيل تمتلك ترسانة نووية، ولديها تفوق من حيث نوعية العتاد العسكري
وتطوره على باقي دول المنطقة. وسلاحها الأيديولوجي شديد القوة . خاصة ما
يتعلق باضطهاد اليهود، وسيف العداء للسامية الذي تسلطه على كل من يتعرض
للسياسات الاسرائيلية بالنقد والاتهام. وتتمتع إسرائيل بدعم سياسي وعسكري
ومالي لا ينقطع من الولايات المتحدة ومن الغرب عموما". أما عناصر الضعف
الاسرائيلية فتكشفها لنا اتجاهات الابحاث والدراسات الاسرائيلية الأمنية
والسياسية والاجتماعية ، كما تكشف لنا ، تلك الاتجاهات حجم المخاوف
الاستراتيجية من تراكم نقاط الضعف في الكيان الإسرائيلي. ويمكن تحديد تلك
النقاط على الشكل التالي:
-
المخاطر الديمغرافية التي لا تستطيع أية قوة داخلية أو خارجية الحد من
مفاعيلها الراهنة والمستقبلية على طبيعة
الصراع وعلى هوية اسرائيل نفسها.
-
المخاطر الاجتماعية التي تزداد وضوحا" من حيث الانقسام بين المجموعات
اليهودية المختلفة القادمة من ثقافات
متباينة. (اليهود الشرقيين واليهود
الغربيين) ومن حيث تزايد نسبة القلق الناجم عن تساؤلات اساسية حول المستقبل
وحول معنى الحياة وحول استمرارالعيش في هذا الكيان.
-
تراجع الاندفاع من أجل الخدمة العسكرية، وتزايد حالات الفرار من تلك
الخدمة. ومعها التساؤلات حول معنى قتال
الفلسطينيين وحول التضحية بالنفس في
هذا القتال.(ما الذي نموت من أجله؟)
-
مواجهة ما يسمى بالاوهام الاسرائيلية: وهم الديمقراطية ووهم الهوية
الاسرائيلية المشتركة، ووهم الاستقرار (الأمن
المفقود).
-
تزايد نسبة الميل الى
الهجرة بين الشباب الإسرائيلي.
-
التشكيك على المستوى الايديولوجي والسياسي بالمشروع الصهيوني نفسه، واتهام
الصهيونية بأنها مجموعة خرافات
. ومثل هذا الاتهام لم تشهده دولة اسرائيل
منذ قيامها.
-
تراجع هيبة الجيش الاسرائيلي بعد انسحابه من لبنان وعجزه عن مواجهة
الانتفاضة
-
تراجع ما يسميه بعض القادة العسكريين "قدرة الردع الاسرائيلية"
وربما تكمن المخاطر الحقيقية بالنسبة الى اسرائيل كدولة قامت على عقيدة
التفوق والقدرة على الردع والتهديد المتواصل فهي في تلك النقطة الأخيرة
المتعلقة بتراجع قدرة الردع. لأن هذا التراجع له دلالات استراتيجية خطيرة
على مستقبل الكيان الاسرائيلي نفسه. خاصة وأن اسباب هذا التراجع تعود كما
يراها بعض المحللين الاستراتيجيين في الجيش الاسرائيلي الى ما يسمى "الحروب
الصغيرة" والمقصود بالحروب الصغيرة هي الحروب التي لا يستطيع الجيش
الاسرائيلي استخدام كامل قوته وطاقاته في مواجهتها، مثل الحرب التي خاضها
حزب الله في جنوب لبنان والانتفاضة التي قام بها الفلسطينيون في الداخل.
خاصة وأن الجيش الاسرائيلي اضطر الى التراجع امام تلك الحروب الصغيرة بعد
أن فقد الكثير من هيبته .كما خضعت سياسات الحكومة الاسرائيلية ايضا" الى
ذلك التراجع. مثل الانسحاب من لبنان والانسحاب من غزة.
أن نقاط الضعف عند اسرائيل هي بالضرورة نقاط قوة بالنسبة الى العرب ، خاصة
تلك التي يمتلكون القدرة على التأثير فيها ومراكمتها مثل الحروب الصغيرة.
في حين أن الاعتماد على نقاط الضعف ذات الصلة بعوامل أخرى مثل الميل الى
الهجرة أو الانقسام الاجتماعي، أو التبدل في الاوضاع الدولية أو
الأوروبية... فلن تزيد من نقاط القوة المباشرة عند العرب لآنها ليست من صنع
أيديهموإن كانت تساهم في نقاط قوتهم بطبيعة الحال.
أن التركيز على تراجع قدرة الردع الاسرائيلية يعني التمسك باستراتيجية
الحروب الصغيرة. ويعني البحث في كل السبل التي تعزز هذه الاستراتيجية
وتحميها وتخلصها من كل الاستراتيجيات والاوهام السابقة التي كانت تحمل
رهانات غير واقعية وغير عملية. مثال فتح كل الجبهات، أو إسقاط الأنظمة ،أو
غير ذلك مما حملته مراحل الصراع الماضية من اتجاهات ورؤى مختلفة. ولا تعني
استراتيجية الحروب الصغيرة على الاطلاق عدم السعي الى تطوير كل عناصر القوة
العلمية والاجتماعية والمعرفية، والتمسك بالاستقرار الاجتماعي وبالوحدة
الوطنية لأن ذلك كله من أهم عوامل حماية تلك الاستراتيجية، في هذا الصراع
المعقد الذي يحتاج الى بصيرة نافذة لاستشراف التبدل المتواصل في عوامل
القوة وعوامل الضعف وتفاعلاتهما المتبادلة عند طرفي الصراع.
أعلى الصفحة
عودة للصفحة |