المشروع الصهيوني في قرن: الإنجازات، الإخفاقات، الاتجاهات الجديدة
أ.د. رشاد الشامي
عودة للصفحة
يعتمد البحث في تقييم المشروع الصهيوني على
الربط بين الأهداف الرئيسية التي حددتها الصهيونية في بداياتها كأهداف تطمح
في تحويلها إلى واقع ملموس في أرض فلسطين، وبين الإنجازات التي تحققت من
هذه الأهداف، مع رصد الإخفاقات التي اعتورت مسار هذا المشروع، ورصد
التوجهات الجديدة له.
وقد اعتمد الباحث في بحثه، نظرا لطول
الفترة الزمنية التي يغطيها البحث، على تناول الأحداث الكبرى (الكليات) دون
الدخول في التفاصيل التي لازمتها أو سبقتها، وذلك حتى يستطيع أن يفي بهدف
التغطية الشاملة لهذه الفترة.
والفترة الزمنية التي يتناولها البحث تمتد
من عام 1882 (عام أول هجرة صهيونية إلى فلسطين)وحتى 2005. وقد قسمها
الباحث، وفقا لوجهة نظره في تطور مسار المشروع الصهيوني، إلى مرحلتين
أساسيتين: المرحلة الأولى وتمتد من (1882- 1949)، والمرحلة الثانية وتمتد
من (1949- 2005)، وهما مرحلتان متقاربتان زمنيا (الأولى 67 عاما، والثانية
56 عاما).
المرحلة الأولى (1882- 1949)
في هذه المرحلة تركزت جهود المشروع
الصهيوني في الاتجاهات التالية:
1- تشجيع اليهود في أوروبا (شرقها وغربها)
على الهجرة إلى فلسطين والإقامة الدائمة فيها بكافة الوسائل، وخاصة استغلال
ما سمي "الضائقة اليهودية" (تحقيق هدف جمع "شتات المنفيين").
2- العمل على الاستيلاء على أكبر مساحة من
الأراضي الفلسطينية بكافة الوسائل الممكنة والمتاحة المشروعة وغير
المشروعة، في إطار من التخطيط المحكم وفق سياسة "دونم إثر دونم" (تحقيق هدف
الاستيلاء على أرض فلسطين "الوطن الديني والتاريخي لليهود" باعتبارها
المركز الرئيسي للوطن القومي اليهودي المأمول).
3- السعي لبناء بنية تحتية، وكوادر بشرية
في كافة المجالات التي تشكل احتياجات "الدولة في الطريق" (الصحة، الاقتصاد،
التعليم، الزراعة، الصناعة، الخدمات الاجتماعية، القوة العسكرية، البنية
الأساسية، التجمعات السكانية المتكاملة في كافة المجالات (الكيبوتس،
والموشاف)...الخ.
4- السعي لبناء
شخصية يهودية جديدة تختلف اختلافا جذريا عن شخصية "اليهودي الجيتوي"
المتخاذل والجبان والمستسلم والمعتاد على الاضطهاد والخنوع...الخ، وإحلال
شخصية جديدة هي شخصية "العبري" ذو الثقافة العبرية العلمانية الحديثة
والقوي الواثق من نفسه، والقادر على مواجهة الآخرين وهزيمتهم (أخر يهودي
وأول عبري)، والذي يأخذ بأدوات العصر في مجال العلم والتكنولوجيا والتسليح.
5- السعي لتأمين دعم قوي ودائم للمشروع
الصهيوني من قبل الدول العظمى صاحبة الهيمنة في العالم والقادرة على تأمين
الدعم المادي والمعنوي وكذلك البشري للمشروع الصهيوني حين يكون في حاجة
إليه، وخلق الدوافع والمبررات لدى هذه القوة العظمى لكي تمارس هذا الدور
المطلوب بقوة دفع عالية ودون تراجع (بريطانيا ثم بعد ذلك الولايات المتحدة
الأمريكية).
وخلال هذه المرحلة يمكن القول، بأن المشروع
الصهيوني نجح إلى حد كبير، في إنجاز الأهداف المرجوة:
1- على مستوى الهجرة، وصل عدد اليهود في
فلسطين منذ الهجرة الأولى عام (1882)وحتى إقامة الدولة وعبر خمس هجرات
كبيرة ومتوالية من الهجرات الصهيونية، إلى 650 ألف يهودي، كان معظمهم من
يهود شرق أوروبا، بالرغم من أن أعداد كبيرة منهم فضلت الهجرة إلى الولايات
المتحدة الأمريكية.
2- نجح المشروع الصهيوني في الاستيلاء على
مساحة كبيرة من أرض فلسطين، خصصت له في قرار التقسيم عام (1947)، ثم زاد
عليها 20% مع انتصاره على الجيوش العربية في حرب فلسطين 1984 ، وإعلان قيام
دولة يهودية على هذه المساحة في 14 مايو 1948.
3- نجح المشروع الصهيوني في إعداد البنية
التحتية والكوادر البشرية القادرة على تشكيل دولة بكل المقومات المتعارف
عليها، وفي كافة القطاعات.
4- نجح المشروع الصهيوني في إنزال أول
هزيمة عسكرية، ليس بالفلسطينيين فقط، بل بالدول العربية المحيطة بفلسطين،
وهو الأمر الذي ورط هذه الدول تباعا في أن تكون طرفا في الصراع الذي عرف
فيما بعد بالصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما زاده تعقيدا.
5- نجح المشروع الصهيوني في إقناع الدول
العظمى بمساندة المشروع وأهدافه، وبعد حرب 1948، بما تمخضت عنه من نتائج
لصالح القوى الصهيونية في فلسطين، استطاعت كسب تأييد ودعم الولايات المتحدة
الأمريكية، وهو الدعم الذي تواصل وازداد قوة مع مرور الوقت، منذ ذلك
التاريخ وحتى الآن.
6- في هذه المرحلة لم يكن للدين اليهودي أو
للشريعة اليهودية أو لرجال الدين اليهود دور يذكر على كافة المستويات
الاجتماعية و البشرية و التعليمية... الخ.
المرحلة الثانية (1949- 2005) :
تنقسم هذه المرحلة إلى مرحلتين تمثلان ما
يمكن أن نطلق عليه "ذروة التوسع الصهيوني الإقليمي" (1949- 1979) ، ثم
"مرحلة الانكماش الصهيوني الجبري الإقليمي" (1979 - 2005) .
على امتداد هذه المرحلة واصل المشروع
الصهيوني جهوده الحثيثة من أجل تنمية الموارد البشرية للدولة عن طريق
الهجرة اليهودية، وتنمية الكوادر البشرية اللازمة، ليس لوجود الدولة، بل
لوضعها في مصاف الدول المتقدمة في العالم الغربي وأمريكا، وليس قياسا على
دول العالم الثالث الذي تقع فيه جغرافيا.
وفي هذا الإطار حدث تطور هام في المجال
البشري والسكاني كان له تأثير هائل ليس على النمو السكاني للدولة، بل على
الواقع الاجتماعي والسياسي والديني فيها، وقد تمثل هذا التطور فيما يلي:
1- هجرة أو تهجير يهود البلدان العربية
والإسلامية إلى إسرائيل، حملت معها عبر عدة سنوات، دعما بشريا يهوديا
هائلا، أحدث خللا في التوازن السكاني والحضاري في الدولة، بين اليهود "الاشكنازيم"
(ذوي الأصول الغربية) وبين اليهود "السفارديم" (ذوي الأصول الشرقية)، وهو
الأمر الذي أعطى ثماره تدريجيا في تحول مجتمع المشروع الصهيوني إلى ما عرف
باسم "إسرائيل الأولى" (الاشكنازيم) و"إسرائيل الثانية" (السفارديم).
2- هجرة أعداد لا بأس بها من اليهود
المتدينين والمتشددين دينيا ممن كانوا قد أحجموا عن هذه الخطوة من قبل،
لرفضهم فكرة المشروع الصهيوني العلمانية (الكافرة - الملحدة).
وهو ما أعطى ثماره السلبية مع الوقت، حيث
أن مجتمع المشروع الصهيوني بقدر ما انقسم طائفيا، انقسم أيضا إلى فئتين
متحاربتين ومتعارضتين في القيم والوسائل والأهداف(دينيين وعلمانيين)، وهو
ما ظهر بشكل جلي بعد حرب 1967، وترسخ تدريجيا بعد حرب 1973، في العديد من
المظاهر التي شكلت ورطة حقيقية في مواجهة قضية طابع الدولة: هل هي علمانية،
أم دولة دينية تطبق فيها الشريعة اليهودية بكافة تفاصيلها، وهو ما يهدم
المشروع الصهيوني من أساسه.
وهذا التغيير في البنية السكانية في
المشروع الصهيوني على المستوى الطائفي والديني، يرى البعض أن له وجهه
الإيجابي، ويرى البعض أن له آثاره السلبية التي سيدفع المشروع الصهيوني
ثمنا غاليا مقابلها في المستقبل.
تميزت هذه المرحلة بنشوب سلسلة متوالية من
الحروب (1956 - 1967 - 1973 - 1982)، كان لإحداها دور فعال في إحداث حالة
"التوسع الصهيوني الإقليمي" (1967)، وكان للأخرى التالية لها دور في توالي
حدوث "الانكماش الصهيوني الجبري الإقليمي" (حرب أكتوبر 1973).
حيث بدأت
إسرائيل اعتبارا من عام 1979 في تقديم تنازلات إقليمية عن الأراضي التي
احتلتها في حرب يونيو 1967: اتفاقية السلام مع مصر (1979) والانسحاب من كل
شبه جزيرة سيناء (1984)- اتفاقية السلام مع الأردن (1984) - الانسحاب من
طرف واحد من جنوب لبنان (2000)- الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة
ومستعمراته (2005).
كان من أبرز نتائج حرب 1973، وما تبعها من
تداعيات على الساحة الإقليمية والدولية، بالنسبة للمشروع الصهيوني، تراجع
الحالة الصهيونية لدى يهود أمريكا وأوروبا، وإعادة النظر في مركزية إسرائيل
بالنسبة ليهود العالم، حيث أصبح يهود أمريكا هم الذين يملكون هذه المركزية،
باعتبارهم الأقدر على حماية يهود العالم بدلا من إسرائيل، التي أثبتت عدم
قدرتها على القيام بهذا الدور الذي ادعته لنفسها منذ قيامها، وفشلت في
الوفاء به، وأصبح اليهود خارجها أكثر أمنا على أنفسهم ومستقبلهم من اليهود
الذين يعيشون فيها، وهو الأمر الذي ازداد رسوخا بعد الانتفاضة الفلسطينية
الأولى (1987)، والثانية (2001) حيث نح مئات الألوف من يهود إسرائيل إلى
دول أخرى فرارا بحياتهم غير الآمنة في الدولة اليهودية.
حققت إسرائيل خلال هذه المرحلة تقدما
ملحوظا في كافة مجالات قياس التقدم في العالم الغربي وفي أمريكا: في
الصناعة (وخاصة الصناعة العسكرية)، الاقتصاد (مستوى الدخل العالمي للفرد في
إسرائيل)، إنشاء العديد من الجامعات ومراكز البحوث المتقدمة علميا
وتكنولوجيا، مجال المعلومات والنشر والثقافة، الخدمات الصحية، الخدمات
التعليمية والاجتماعية...الخ.
- على المستوى البشري والسكاني، لم يحقق
المشروع الصهيوني ما كان يصبو إليه، وذلك بسبب نضوب هجرة يهود أوروبا بسبب
"الضائقة"، وعزوف يهود كثيرين عن الهجرة بسبب تحقيقهم لمستوى معيشة ممتاز
في مجتمعاتهم، وبسبب شيوع حالة انعدام الأمن في إسرائيل بسبب الحروب
المتوالية والانتفاضات الفلسطينية، تدني مستوى الحوافز التي تقدم للمهاجرين
الجدد عن سابقيهم في الأجيال السابقة، وعلاوة على هذا زادت نسبة النزوح من
إسرائيل بشكل لافت للنظر خلال السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من
القرن العشرين. وعلى سبيل المثال فقد نزح من إسرائيل خلال الفترة من 2000
وحتى 2003، 750 ألفا من يهود إسرائيل. ورغم أنه كان المتوقع في عام 1975 أن
يصل عدد اليهود في إسرائيل إلى عشرة ملايين، فإن عدد سكان إسرائيل عام 2001
وصل إلى 6.4 مليون نسمة، من بينهم 5.2 مليون يهودي (80% من مجموع السكان،
وثمانية أضعاف العدد عشية إقامة الدولة).
ولا
شك في أن هذا البعد يشكل خيبة أمل كبيرة للمشروع الصهيوني بعد 53 عاما من
إقامة الدولة.
أعلى الصفحة
عودة للصفحة |