الندوات والمؤتمرات

الصالون السياسي

المحاضرات

حلقــات نقاشيـة

برنامج نحن والعالم

الحفل السنوي للمركز

إصـداراتنـا

نشـاطـاتنا

 

تداعيات التغير في سوريا على البيئة الجيوسياسية

 

يتناول هذا المقال التغير في سوريا المتمثل بسقوط النظام الحاكم بعد 54 عاماً، وبعد 13 عاماً على ثورة الربيع العربي عليه لإسقاطه، ويستكشف المقال التداعيات والآثار المترتبة على هذا التغير تجاه البيئة الجيوسياسية الحيوية المحيطة بسوريا، والتي تتمثل في كلّ من تركيا وإيران والعراق والأردن ولبنان وإسرائيل، ويبحث في تنامي المحفّزات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في هذه البيئة، وذلك بعيداً عن حقيقة التحول وكيفيته سواء بترتيبات إقليمية ودولية أو غيرها، ويتوصل المقال إلى عدد من المؤشرات التي استجدّت في كيفية التفاعلات المتوقعة في دول البيئة الجيوسياسية تجاه قضايا المنطقة الساخنة وتجاه القيادة الجديدة في سوريا.

شكّلت عملية التغيير الدراماتيكي في نظام الحكم في سوريا ديناميكية فاعلة وذات طاقة حركة عالية نسبياً قياساً على الظواهر الأخرى المماثلة في المنطقة خلال العامين الماضيين، وجاءت بشكل معاكس لعدد منها، كما جاءت متوافقة مع بعضها، ويمكن النظر إلى ما أنشأته هذه التغيرات الديناميكية عالية الطاقة من محفّزات وعوامل تأثير فاعلة في استراتيجيات وسياسات دول البيئة الجيوسياسية الحيوية المحيطة بسوريا بوصفها عوامل تغيير حقيقية تحمل الفرص والتحديات لمختلف اللاعبين في هذه البيئة.

فعلى صعيد الحالة السورية ذاتها شكّلت سوريا بقيادتها المؤقتة الجديدة مادة تحليل كبيرة لطبيعة السلوك والسياسات المتوقعة من النظام الجديد نحو البيئة الجيوسياسية المحيطة بعد توفير أسباب الاستقرار في البلاد، وكذلك ردّود الفعل والتطلّعات الشعبية في دول هذه البيئة جرّاء هذا التغير والتحول الكبير من عدة زوايا سياسية واستراتيجية واجتماعية ذات ديناميكية تغيير كبيرة، وهو ما تسبّب بقلق كبير لأكثر هذه الدول، وحتى النخب الحاكمة في دول أخرى ذات الصلة بالمسألة السورية، وتعدّ التصريحات المنضبطة لقادة الثورة والحكومة المؤقتة قاعدة انطلاق معقولة للتفكير بمستقبل الدولة السورية وعلاقاتها الخارجية، بما في ذلك التطمينات بأنها ستكون دولة متعاونة مع الجميع ولا تكون سبباً للقلق الأمنيّ للأشقاء في هذه البيئة.

وعلى صعيد الدولة التركية، فهي تعدّ من الذين رسموا جزءاً كبيراً من مخرجات التحوّل الجديد، ولذلك تعدّ الدولة التركية بالمفهوم الجيوسياسي الدولة الأكثر رعاية واطمئناناً، بل واستعداداً للتحوّل السوري الجديد، خاصة وأنها الأكثر مصلحة في الاستقرار في سوريا استراتيجياً فيما يتعلق بأمن حدودها الجنوبية، وفتح فرصة القضاء على أي فرصة عبور لمقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي إلى الأراضي التركية للقيام بأعمال تخريب مسلحة، والذي وجد له ملجأ لدى القوى الكردية السورية والنظام السابق، واقتصادياً فيما يتعلق بالشراكة الاقتصادية والتبادل التجاري (20 مليار دولار اتفاقيات سابقة)، وفي استعادة سوريا كمعبر للتصدير إلى الأردن ودول الخليج ولبنان، كما أن تركيا سوف تستثمر في عودة اللاجئين السوريين من جهة، وفيمن يتبقى مغترباً من أصحاب رؤوس الأموال في التجارة التركية، وبذلك تدعم تركيا التغيير الحاصل من أجل بناء دولة سورية حليفة وصديقة خلال العقود القادمة، كما يعدّ التغيير الذي نجح بإسقاط النظام السابق نجاحاً إقليمياً لتركيا، مما يعزّز دورها الإقليمي والدولي في الشرق الأوسط، خصوصاً مع استلام دونالد ترامب للإدارة الأميركية الجديدة في 20 كانون ثاني/ يناير 2025.

وعلى صعيد الدولة الإيرانية، فإن التغيير الذي جرى في سوريا على أيدي قادة الثورة السورية قد شكّل ضربة قوية للمقاربات السياسية والاستراتيجية التي ساقتها إيران منذ الربيع العربي عام 2011، والتي استندت إلى الهيمنة على المنطقة عبر البعد الطائفي في احتلال أو اختراق عدد من العواصم العربية كما أعلن قادتها سابقاً، وكان من بينها الدولة السورية، وهي، أي إيران، التي أنفقت مئات المليارات من الدولارات لاستباحة الأرض والنظام السوري على مدى 13 عاماً مضت، وفتحت الأرض السورية لمختلف أنواع المليشيات الطائفية المرتبطة بها في المنطقة وفي العالم، وتعدّ إيران طرفاً متّهماً إزاء الممارسات التي استهدفت الشعب السوري في العقد الماضي، ورغم ذلك فإن رسائل القادة الجدد فتحت المجال لإيران لإعادة تأهيل سياستها ودبلوماسيتها ومقارباتها تجاه سوريا من جهة وتجاه الأقطار العربية الأخرى، وخاصة لبنان واليمن والعراق من جهة أخرى.

وبرغم أنّ المحللين يعتبرون إيران الخاسر الأكبر في المفهوم التوسعي والطائفي، غير أنّ التغيير أعطى إيران فرصة جديدة للالتحام مع مصالح العرب وتركيا في الشرق الأوسط، ما يقلّل من المخاطر التي أحاطت بها بوصفها من قبل البعض عدواً أول لدول المنطقة، ولا تزال لديها الفرصة لاستمرار الاستفادة من البعد الاقتصادي والجيوسياسي السوري الجديد في حال أعادت تموضعها واستدارت بسياساتها تجاه الدول العربية وتركيا، والذين يرجّح ترحيبهم بهذه النقلة نحو الصداقة والأخوّة والتحالف بدل العداء والاعتداءات والتدخلات في الشئون الداخلية، وقد تجد إيران في الاستقرار الجديد في سوريا فرصاً اقتصادية أوسع مما كان سابقاً إن أحسنت التقدير وإعادة التموضع.

وعلى صعيد الحالة اللبنانية، فإن دولة لبنان تشعر بالارتياح من زاوية الدولة والسيادة بعد سقوط النظام السوري السابق، حيث إنه احتل لبنان فعلياً بالقوة المسلّحة في مرحلة سابقة، وتدخّل في الحرب الأهلية فيها، وفرض الهيمنة السياسية على التشكيلات الحكومية والرئاسية في لبنان، ناهيك عن اعتباره لبنان دولة تابعة أكثر منها دولة متكافئة مع سوريا، لكنّ القادة السوريين الجدد يعبّرون عن مواقف أخرى أساسها التعاون المتبادل وحفظ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية.

من جهة أخرى، فإن هذا التحول قد أضعف نفوذ وقوّة تجّار المخدرات والمافيات اللبنانية والسورية، وأعطى الفرصة لانتعاش الاقتصاد بحُرّية ونماء من الطرفين لمصلحة رفاه وتقدّم الدولتين، كما فتح التحوّل الجديد المجال للعودة الآمنة للاجئين السوريين الذي شكّلوا تحدياً لم يتقبّله كثير من مكوّنات الدولة اللبنانية، وشكّل التغيير الجديد فرصة لتأمين الحدود بين البلدين، والتي يتم ضبطها مستقبلاً ببروتوكولات مشتركة، كما فتح باب التجارة الحرة وتنقّل الشاحنات من لبنان إلى سوريا والأردن وتركيا والخليج، وكذلك من سوريا إلى لبنان، ناهيك عن تنامي فرصة تطوير حالة الطاقة والكهرباء المتأزّمة في لبنان عبر سوريا، سواء من الأردن الذي يعرض تزويد كلّ من سوريا ولبنان بالكهرباء، أو من قبل تركيا التي تعهّدت بإعادة بناء منشآت الطاقة والكهرباء في سوريا أيضاً.

وعلى صعيد الدولة الأردنية، فإن عملية التغيير في سوريا قد حققت كثيراً من المصالح والأهداف الأردنية في ذات الوقت، فقد شكّل النظام السابق منذ 54 عاماً مصدر تهديد وإشكالية أمنية للأردن، كما شكّل خلال العقدين الأخيرين معبراً لتجارة المخدّرات إلى الأردن ودول الخليج، بما في ذلك تشجيع قيام العصابات المسلحة في هذه البلدان، وبذلك فإنه يفترض أن ينظر الأردن إلى هذا التغيير بوصفه فرصة سانحة وتاريخية لاستعادة دوره الاقتصادي والسياسي والأمن لحدوده الشمالية مع سوريا، كما أنه قد أعفاه من أن تكون سوريا معبراً أو مدخلاً لأي تهديدات من قبل مليشيات المجموعات المتطرفة والطائفية العنفية في المنطقة.

ويعدّ بناء الدولة السورية الديمقراطية تماهياً نسبياً مع فلسفة النظام الحاكم في الأردن، خصوصاً فيما يتعلق بتمثيل الشعب وتعزيز الحريات. أما اقتصادياً فإن استعادة التبادل التجاري وتوسيعه بين البلدين لدرجة التكامل والمرور بالهويات للشاحنات والإعفاءات الجمركية والضريبية المشتركة سوف ينعش التجارة والصناعة في البلدين، كما سيفتح بوابة سوريا لتكون معبراً للتجارة التركية إلى الأردنّ وإلى دول الخليج عبر الأردنّ كمعبر ترانزيت، وهو تحوّل مهم له انعكاسات متعددة على التنمية الاقتصادية والتجارة والصناعة في الأردن كما في سوريا، وربما ينجح في تشكيل حالة تكامل واستقرار وأمن على حدود الطرفين، وبين شعبيهما وحكوماتهما، وفي حال هذا النجاح فإن اتفاقيات اتحاد الشام بين كلّ من العراق والأردن ومصر قد تجد لها فرصة أوسع لتشكيل "اتحاد الهلال الخصيب" بدل أيّ شكل آخر لهذا الهلال وفق التخوّفات الأردنية التي كانت سائدة في عهد النظام السوري السباق، وبذلك فإن الأردنّ سوف يتمتع بمنطقة للتجارة الحرة والتكامل الاقتصادي غير مسبوقة منذ عقود مضت.

وعلى صعيد الدولة العراقية، والتي شاركت مليشيات مسلحة منها إلى جانب إيران في أعمال عنف واعتداءات ضد الثورة والشعب السوري خلال العقد الماضي، والتي كانت تموّل من أموال الشعب العراقي ونفطه، فقد رفع التغيير الجديد عن كاهل الدولة هذا العبء الذي حمّلتها إياه علاقاتها الاستراتيجية مع إيران، كما رفع عن كاهلها الأعباء المالية التي قيل إنها بلغت عشرات المليارات بسبب الأزمة في سوريا.

ولذلك فإن التغيير في سوريا يوفّر فرصة ذهبية للعراق للاستدارة تجاه العلاقة مع سوريا لتقوم على أساس الاحترام المتبادل والتكامل التجاري والاقتصادي والصناعي، وكذلك للحفاظ على السلامة الأمنية على الحدود بدل العيش في أوهام مخاطر الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وهو الحال الذي كان خلال حكم النظام السوري السابق.

وعلى صعيد آخر، فإن عملية التغيير قد خلقت فرصة جديدة للقوى السياسية العراقية لإعادة التفكير في طبيعة علاقاتها العربية مع سوريا والأردنّ وغيرهما من الدول العربية، في مقابل تحجيم التدخلات الإيرانية في الشئون العراقية الداخلية حتى المذهبية منها، واستعادة استقلال الاقتصاد العراقي المحروم من فرص التوسّع والتبادل مع الأردنّ وسوريا ودول أخرى في ظل السياسات المنسّقة مع إيران والنظام السوري السابق.

وعلى الصعيد الإسرائيلي، فقد شعرت إسرائيل بخطورة التحوّل الجديد لاعتبارات مهمة تتعلق بفكر القيادة الجديدة وفكر راعي أو داعم هذا التغيير الرئيسي، وهو تركيا التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل مؤخراً، الأمر الذي دفع القيادة الإسرائيلية للقيام بعمليات عسكرية في القضاء على القوة الصاروخية والدفاع الجوي والطيران العسكري السوري، ناهيك عن منشآت أخرى، كما قامت بإنهاء اتفاق فك الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، وقامت باحتلال المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل، كما قامت بانتهاك السيادة السورية البرية والجوية في عدة محطات متتابعة منذ 8 ديسمبر 2024 وحتى كتابة هذه المقالة، وهي تستعرض قوّتها على القيادة الجديدة في محاولة منها لجرّها إلى مربعات معينة، ورغم انتهاء وجود القوات الإيرانية والمليشيات المسلحة التابعة لها في سوريا، والتي كانت تتخذها اسرائيل ذريعة للعدوان على سوريا في عهد النظام السابق، غير أنّ ذلك لم يحُل دون قيام إسرائيل بهذه الاختراقات والاعتداءات العدوانية على سوريا وعلى سيادتها بعد سقوط النظام.

وتحاول إسرائيل بطرق التفافية أن تفرض الأمر الواقع، وأن تضغط على القيادة السورية الجديدة للاعتراف بالكيان الإسرائيلي، بل والتطبيع معه، وذلك مثلما جرت محاولات عدة مع قيادات الثورة السورية من قبل مبعوثين أمميين وأميركيين خلال الثورة للاعتراف بإسرائيل حتى يتأهّلوا لتلقّي الدعم الأميركي والغربي، ومع تنبّه القيادة الجديدة لهذا الفخّ حتى الآن فإن إسرائيل لن تترك فرصة للتدخل في السياسة السورية وشئونها الداخلية إلا وستحاول العبث بها عبر أي أزمات داخلية قد تنشأ.

وبذلك، فإن التحوّل والتغيير الذي جرى في سوريا في كانون أول/ ديسمبر عام 2024 حمل في طياته التحديات والفرص لمختلف دول البيئة الجيوسياسية- المحيط الحيويّ لسوريا الدولة، وأنه سوف ينعكس على هذه الدول وفق قدرتها على استثمار الفرص المتاحة القائمة على الاعتراف بالوضع الجديد أولاً والتعامل مع الدولة السورية على قدم المساواة، والاعتراف بالمصالح المتبادلة بين شعوبها والشعب السوري، وكذلك في إعانة سوريا على تجاوز حالة اللجوء الداخلي والخارجي، وعلى إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد وبناء هياكل الدولة المدنية والعسكرية والأمنية لتحقيق الاستقرار من جهة أخرى.

وكذلك بالتزام هذه الدول بعدم التدخل في الشئون الداخلية أو القيام بأي محاولات لفرض شروط خارجية على الدولة بأي حجة كانت، مذهبية أو طائفية أو دينية أو اقتصادية، أو فيما يتعلق بحقوق المواطنين السوريين من الرجال والنساء والشباب والأطفال الذين تتحمل الدولة السورية مسئولية رعايتهم ومشاركتهم في إعادة بناء بلدهم على قدم المساواة.

وعلى صعيد آخر فإن للتحول الجديد في سوريا انعكاساته الواضحة على البيئة الجيوسياسية المحيطة في صناعة فرص للتغيير الداخلي في هذه الدول لصالح زيادة مساحات الحريات والتوجهات الديمقراطية، والتوقّف عن ملاحقة الرأي المخالف، وإشراك المجتمع بكلّ مكونّاته السياسية والفكرية والاجتماعية وعلى قدم المساواة في إدارة شئون البلاد.

انتهى

المقال الإفتتاحي لمجلة دراسات شرق أوسطية – العدد - 110


 

 

 

الدورات التدريبية

مجلـة دراســات شـرق أوسطيــة

جائزة البحث العلمي

رؤيتنا للمتغيرات

وثـائـــق

دراســـات

الدراسات الإسرائيلية

أرشيف النشرة الإخبارية

 

 

 

 

 

 

 

Designed by Computer & Internet Department in MESC.Latest update   August 12, 2023 15:06:37