|
تحولات الرؤية الفلسطينية والعربية لإسرائيل
فقد شكّلت عملية طوفان الأقصى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تحوّلاً نوعياً في عمل المقاومة الفلسطينية، كما شكّل ضربة قاصمة لإسرائيل تسببت باهتزاز ثقتها بنفسها على مختلف الصعد، وكشفت عجزها عن الرد والدفاع وحماية النفس أمام العالم والعرب والشعب الفلسطيني وأمام المجتمع الإسرائيلي والدولي. وكانت معارك المقاومة السابقة في غزة والضفة ذات تأثير تكتيكي بأبعاد استراتيجية مهمة وتحوّلات كبيرة في مقاومة الاحتلال، لكن معركة طوفان الأقصى ومواجهاتها الأخيرة وتداعياتها بهذا الحجم كانت مزلزلة لوقائع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في البعدين التكتيكي والاستراتيجي وعلى مختلف الصعد. وهو ما ساهم وسيساهم في إحداث تحوّل في الرؤية العربية والفلسطينية لإسرائيل سياسياً وعسكرياً وأمنياً، ويمكن رصد أهم التحولات في النظرة بين العامين في هذه الظروف والتطورات المستجدة، ومن أهمها الانتقال بهذا المستوى الرفيع من العمل المقاوم من نظرية دفع العدوان إلى القدرة على مبادأة الجيش الإسرائيلي وميليشيات المستوطنين المسلحة ووحدات المستعربين الخاصة، وتراجع أسطورة القوة الإسرائيلية الغاشمة التي تدّعي تفوقها على كل العرب وأنها دولة قوية مسلحة، وانكشاف مستوى قياداتها ونخبها الحاكمة، مع ظهور عجزها وفشلها على قهر الإرادة الفلسطينية المقاومة منذ عام 1948 وحتى اليوم. وقد ساهمت كذلك في سقوط مختلف الحجج وممارسات التسويق لتطبيق الاتفاقات الأمنية الفلسطينية والعربية وعمليات التطبيع مع إسرائيل والتمترس من قبل البعض بها، وأن الفعل الفلسطيني المقاوم بالإرادة والإعداد والتخطيط والإيمان قادر على هزيمة هذا الجيش وأجهزته الأمنية رغم قلة إمكانات المقاومة أمام ما يملك الجيش الإسرائيلي، حتى وهو يفرض الحصار مع دعم إقليمي وعالمي على غزة والضفة والقدس. كما نقلت نجاحات المقاومة المستمرة حتى كتابة هذا المقال، وبمرور تسعة شهور على الحرب، نقلت العقل الشبابي الفلسطيني والعربي إلى حالة من الإلهام للإبداع في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، سواء على أرض فلسطين ميدانياً، أو في العالم الافتراضي، أو في أوروبا وأمريكا بوسائل أخرى، أو على حدود فلسطين، والتي أصبحت في حالة متطورة ومتصاعدة وفق القدرات والديناميكيات المتاحة، ما فتح الباب لتنامي وتبلور التهديدات الوجودية فعلاً لإسرائيل. وقد تبيّن أنّ الغرب، وتحديداً الإدارة الأميركية وحكومات كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، غير قادر على حماية إسرائيل من هذه المقاومة بأعمالها البطولية الناجزة، وأن جسراً عسكرياً جوياً وبحرياً وبرياً لا يملك وقف المقاومة، ناهيك عن هزيمتها داخل غزة والضفة المحتلتين المحاصرتين، فكيف له أن يحمي إسرائيل في حال كان الاشتباك والعمليات عربياً وإسلامياً عبر الحدود براً وبحراً وجواً. ومن التحولات التي يشهدها الواقع العربي والفلسطيني تجاه إسرائيل وإدارة الصراع معها أن التوّجه العربي كان يتقدم باتجاه التطبيع والتعايش بل والتعاون مع إسرائيل برعاية أمريكية، غير أن عملية طوفان الأقصى من جهة، وحرب الإبادة الوحشية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في غزة من جهة ثانية، قد شكّلا صدمة للوعي العربي بأنّ هذا المسار- التطبيع والتعايش ليس لصناعة السلام، بل لوضع لبنات عدم الاستقرار والأمن في المنطقة، وفي كل دولة على حدة، وسينتج عنه قيام إسرائيل باستهداف الدول العربية في أمنها واقتصادها ومنظومتها الفكرية والاجتماعية، ما يفتح المخاطر والمهددات على واقع ومستقبل النخبة الحاكمة العربية. وقد تسبّبت هذه التحولات بانعكاسات مهمة على الفكر العربي والفلسطيني على صعيد إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ومن أبرز هذه الانعكاسات إمكانية التصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي ومواجهته رغم القدرات الكبيرة التي يمتلكها، ورغم اعتماده على الحلفاء والمساعدات الخارجية، ما قد يشجع الأطراف العربية والإقليمية على تغيير نهجها في التعامل مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تبيّن تراجع قدرة إسرائيل على خدمة المشروع الغربي، وأصبحت إسرائيل منشغلة بالدفاع عن نفسها أمام الاتهامات العالمية بارتكاب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ما يجعل التعاطف معها وبناء شراكات واتفاقيات معها نقطة خلاف بارزة لدى الأطراف العربية والإقليمية والدولية.
بل إنه من المتوقع أن يعيد الجانب الرسمي العربي تقييمه لمستوى العلاقة مع إسرائيل واندماجها في المنطقة، ومدى تحقيق اتفاقيات السلام والتطبيع للمصالح العربية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وستتيح الحالة الشعبية العربية في وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني وضدّ إسرائيل واقعاً نقاشياً عربياً رسمياً وشعبياً تجاه المطلوب عربياً لخدمة القضية الفلسطينية وإسناد الشعب الفلسطيني وأهمية بناء علاقة رسمية عربية فاعلة مع كافة القوى السياسية الفلسطينية وفي مقدمتها فصائل المقاومة.
وأخيراً، فإن مخرجات إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي والمسارات التي أنتهجتها النخب الرسمية العربية والفلسطينية طيلة العقود الماضية وحتى اللحظة، ونتائج معركة طوفان الأقصى، وسلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني، وتجاوز سياسات إسرائيل ومواقفها أي اعتبار لعلاقاتها مع عدد من الدول العربية ومع السلطة الفلسطينية، وتعنّتها أمام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومؤسسات حقوق الإنسان، يؤكد أن الرؤية الفلسطينية والعربية لا بد وأن تعيد التفكير تجاه إسرائيل وتجاه إدارة الصراع بما يفتح أفقاً جديداً في ملف القضية الفلسطينية أساسه مواجهة واحتواء المشروع الصهيوني، ودعم الشعب الفلسطيني في تحصيل حقوقه بتحرير أرضه وإقامة دولته المستقلة وتحقيق عودة أبنائه إلى وطنهم.
المقال الإفتتاحي لمجلة دراسات شرق أوسطية – العدد - 108
|
|
|||
|
---|