|
التحول في فكر إدارة الصراع العربي- الاسرائيلي
شكلت نتائج وتداعيات وأبعاد عملية "طوفان الأقصى" تحولات نوعية متعددة على الصعيدين التكتيكي والاستراتيجي، وكان من بين هذه التداعيات والنتائج التحولات الفكرية التي تشكلت في العقلية العربية والفلسطينية، وبعض الدولية شعبياً ورسمياً، وبالنظر إلى مسألة إدارة الصراع فهذه المقالة معنية بالتحولات الفكرية التي تحقّقت بفعل نجاح عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر 2023 فلسطينياً وعربياً. وتتناول هذه المقالة الفلسفة التي سادت في العقلية السياسية العربية والفلسطينية خلال العقود الثلاثة الماضية على المستوى الرسمي، ولدى النخبة الفكرية والسياسية المساندة، ناهيك عن الإعلام التقليدي والتواصل الاجتماعي، حيث تكرّست في ظل توقيع اتفاقات السلام بين كلّ من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل حالة من الرهان على إمكانية تحقيق انفراج في إنهاء الاحتلال للأراضي المحتلة من قبل إسرائيل منذ العام 1967، خصوصاً في حال تم طمأنة إسرائيل على السلام والأمن والتطبيع. وشكّلت اتفاقات السلام والمفاوضات اللاحقة على الوضع النهائي الفلسطيني، الذي علّقته اتفاقات أوسلو إلى إجل مجهول، إطاراً للفكر العربي الرسمي والسياسي، وظلت الأفكار والقرارات والسياسات العربية تدور في هذا الفلك لأكثر من ثلاثين عاماً مضت، في مقابل استمرار إسرائيل بقضم الأرض وتهويدها وبناء المستوطنات اليهودية فيها، والاستيلاء على المقدسات وتهويديها، وممارسات كافة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الفلسطيني، خلافاً لكافة المواثيق الدولية الإنسانية التي تنظم حالات الاحتلال والاستعمار والحرب، وهي تتمتع (أي إسرائيل) بحماية وغطاء دوليّ مستمرّ خصوصاً من قبل الولايات المتحدة وأوروبا. وتشكّلت الحالة السياسية على أساس أن خيار السلام والمفاوضات هو الخيار الاستراتيجي العربي والفلسطيني، مع استبعاد أي محاولات عسكرية أو مقاومة شعبية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وعانت فصائل المقاومة الفلسطينية كثيراً من سلوك السلطة الفلسطينية الأمنيّ والسياسيّ، وكذلك من سلوك كثير من الدول العربية غير البنّاء في كثير من الأحيان معها بالملاحقة المالية والعضوية والسياسية، ناهيك عن الضغوط المستمرة على الجانب الفلسطيني لتوقيع اتفاقات وتقديم تنازلات جديدة فيما لا تطبق إسرائيل ما اتفق عليه حتى في اتفاق أوسلو 1993 ، خاصة وأن الموقف العربي الرسمي، خصوصاً في الكواليس، يستند دوماً على نظرية العجز العربي والخوف من غضب الولايات المتحدة، وأن إسرائيل قوة ضاربة لا يمكن هزيمتها او مواجهتها وهي تتمتع بتفوق عسكري وامني واقتصادي في كافة موازين القوى، في مقابل التنامي لفكر المقاومة الناجزة القائم على ضرورة مواجهة القوة بالقوة والعدوان بالكفاح المسلح وفق القانون الدولي الذي شرّع استخدام المقاومة المسلحة ضد الاستعمار والاحتلال العسكري الأجنبي، ومارست المقاومة الفلسطينية ذلك عملياً وبنجاح لافت في حرب إسرائيل على لبنان عام 2006، وحروبها على غزة 2008/2009، و2012، و2014، و2021، و2022، و2023، ثم جاءت "طوفان الأقصى" لتحدث الفارق الفكري والسياسي والأمني والعسكري في وقت واحد وهو موضوع هذه المقالة. أسقطت معركة "طوفان الأقصى" مقولات السلام لإنجاز الحقوق الفلسطينية، وأسقطت مقولات الخلل في موازين القوى بين العرب وإسرائيل، كما كشفت أن إسرائيل أعجز من ان تواجه مقاومة فاعلة ومنظمة في داخل فلسطين رغم الحصار لأكثر من 17 عاماً في قطاع غزة، وتمكّنت المقاومة بهذه العملية من هزّ نظريات الأمن الصهيوني القائمة على العدوان، وكسرت الهيبة المزعومة لجيشه وأجهزته الأمنية، كما كشفت حجم العجز الفكري والاستراتيجي الذي يلفّ عقول القيادات السياسية الاسرائيلية في تعاملها مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني باستخفاف وتجاهل، وكشفت أن إسرائيل بالتالي قابلة للهزيمة. والمثير للدهشة الاستراتيجية أن هذه النتائج قد تكشّفت جميعاً في أقل من سبع ساعات من عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 اكتوبر، وبرغم قيام إسرائيل بشن العدوان الوحشي اللاحق على قطاع غزة، والذي ظنّ غالب العرب والنظام الدولي أن حماس والمقاومة الفلسطينية اصبحت ماضية نحو الدمار والهزيمة الكبرى أمام هذه القوة الطاغية المتوحشة الإسرائيلية المدعومة من خمس دول أوروبية كبرى بأحدث أنواع الأسلحة وافتكها، ورغم مرور 85 يوماً على العدوان حين كتابة هذه المقالة، غير أن إسرائيل لم تتمكن من تحقيق أي إنجاز عسكري معتبر، في الوقت الذي استمرت فيه المقاومة بإطلاق الصواريخ من قطاع غزة على الكيان الصهيوني، وقامت بعمليات صيد للدبابات الإسرائيلية المتوغلة في قطاع غزة، وضربت المقاومة الفلسطينية بقوة وباس شديد قوات النخبة العسكرية والاستخبارية في الجيش الإسرائيلي ضربات موجعة جداً، وشكّلت حالة كوابيس فظيعة لقيادات الجيش وجنوده وضباطه، ولتكون حصيلة المعركة تدمير أكثر من 1000 آلية عسكرية متنوّعة من أحدث أنواع الدبابات والآليات العسكرية في العالم، ومقتل وجرح أكثر من 5-11 ألف جنديّ وضابط إسرائيلي حسب مختلف الإحصاءات والتقديرات الإسرائيلية، في مقابل الفشل الذريع في وقف عمل المقاومة او النيل الاستراتيجي من قدراتها في كافة أنحاء القطاع، والعجز عن حماية المستوطنات اليهودية في غلاف غزة، بل وأحياناً مناطق أبعد من ضواحي تل أبيب، ما جعل الوضع الاستراتيجي والأمني لإسرائيل هشّاً جداً رغم عنجهية وتبجّح القيادة العسكرية والسياسية بادعاءات لا أدلة عليها حتى الآن. وبذلك فإن مناقشة الفكر العربي والفلسطيني الذي كان سائداً قبل 7 أكتوبر تؤكد العجز السياسي والفكري لدى النخبة الحاكمة والنخب السياسية المتحالفة معها عن قراءة الحقائق في القضية الفلسطينية وتاريخ نجاحات المقاومة الفلسطينية، خصوصا بعد ان نقلت المعركة الى قلب كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي اختار هذه النخب العيش بأوهام افتراضية عن قوة العدو وضعف العرب، وحقيقة قدرة النظام الدولي على حماية إسرائيل. كما أن دراسة واقعية نظريات المفاوضات السياسية المفتوحة بلا حدود تحت سقف شروط العدو لأكثر من ثلاثين عاماّ، واتفاقات السلام غير الناجز، واتفاقات التطبيع غير الناجزة مع العدوّ اثبتت بقوة انها لا تحقق الأهداف العربية، ولن تتمكن من محاصرة المقاومة الفلسطينية كما يتحدث البعض في الكواليس وبعض التسريبات، وأن إسرائيل ليست خياراً للتحالف معها على الإطلاق، بل هي العدو المستمر للعرب والفلسطينيين ، وهي الدولة المارقة والعاصية للقانون الدولي منذ تأسست عام 1948 (قبل 75 عاما)، وهي دولة خطرة جداً على الأمن والسلم الدوليين وفق معايير المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة وفق تقديرات امين عام الأمم المتحدة، وبالتالي فهي غير مؤتمنة حكماً على الأمن القومي العربي ولا الأمن القطري لأي نظام حكم عربي مهماً قدّم لها من خدمات، وهو الامر الذي يطرحه البعض لتحميهم إسرائيل من إيران وخطرها الإقليمي، وواقع السلطة الفلسطينية التي تعاني من إسرائيل المر في كل الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية يشكل مثالاً حياً على ذلك ولأكثر من ثلاثين عاماً من التجربة.
وعلى العكس من ذلك، فإن استخدام القوة المسلحة لمواجهة عدوان الاحتلال الإسرائيلي وتهديد أمنه الداخلي ربما يكون هو السبيل الأنجح لإخضاع الغطرسة والتمرد الإسرائيلي للمحاسبة والعودة إلى الواقعية التي تفرض عليه إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، والتي تعدّ الخطوة والفلسفة الوحيدة التي يمكن أن توفر الأمن والاستقرار في المنطقة لفترة من الزمن.
ويتطلب ذلك، لكي ينجح تحقيق الهدف، البدء بعملية محاصرة ومقاطعة دولة الاحتلال الإسرائيلي لإجباره على الخضوع للمطالب والحقوق العربية، وعلى الأقل في دفعه للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 كاملة، وبدون مستوطنات، وفي عودة اللاجئين الفلسطينيين، والتي تتفق معنا عليها أكثر من 150 دولة في العالم وفق تصويتات الأمم المتحدة المتكررة، ووفق قرارات الأمم المتحدة أرقام 242 و338 و194.
المقال الإفتتاحي لمجلة دراسات شرق أوسطية – العدد - 106
|
|
|||
|
---|