|
التحرير* شكل فوز جوزيف بايدن مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2020 تحولاً أساسياً في طبيعة السياسة والسلوك الأميركي السياسي الخارجي خلال العهد الجديد لأربع سنوات على الأقل، ويعدّ الأردن تقليدياً حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة وفق التقارير والتقديرات والوثاق الأميركية المتعددة على أكثر من صعيد، ما يشير بقوة إلى أن الأردن سيتأثر بهذا التغير في الإدارة الأمريكية. ولذلك فإن التحول في الإدارة الأمريكية وسلوكها تجاه العالم والشرق الأوسط سوف يلقي بظلاله على طبيعة العلاقة خلال الحقبة الجديدة، خاصة وأن الأردن قد تعرض لضغوط كبيرة جداً، بل ولعمليات ابتزاز لموقفه السياسي من قبل الإدارة الأمريكية السابقة 2016-2020 إزاء ملف القضية الفلسطينية، كما تعرّض لضغوط عربية متعددة وعلى مستويات مختلفة أيضاً في ظل تلك الإدارة، والتي أعطت الضوء الأخضر لبعض الدول لتأخذ دوراً أكبر من حجمها وقدراتها وإمكاناتها الجيوسياسية، مما انعكس على الأردن انعكاساً مباشراً سواء فيما يتعلق بمواقف السياسة الخارجية من القضية الفلسطينية أو فيما يتعلق بوضعه الاقتصادي أو دوره الإقليمي، بل وطبيعة علاقاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل. ويعنى هذا التحليل باستشراف دور الأردن وسياساته الخارجية وأوضاعه الداخلية في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة بما تحمل من أيديولوجيا سياسية مختلفة، وبما تحمل من طريقة مختلفة كذلك في إدارة السياسة الخارجية، وبما تحمل من رؤية لأهمية الأردن وطبيعة دوره ومكانته الدولية والإقليمية في المعادلات الجارية، الأمر الذي يفتح التفكير الاستراتيجي الأردني على الفرص المتاحة والتحديات التي ستنجم عن هذا التحول لاتخاذ السياسات والتوجهات الاستراتيجية الأنسب خلال الفترة الديمقراطية للحكم في الولايات المتحدة لأربع سنوات 2021-2024. يمكن القول إن التحول في الإدارة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري يغير تقليدياً من أنماط السلوك السياسي والأمني للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وبالطبع فإن ثمة ثوابت أساسية تتعلق بالمصالح التي تعرف بأنها حيوية للولايات المتحدة مثل أمن إسرائيل وتدفق النفط والأسواق التجارية والعبور الآمن للمنطقة وعبرها إلى العالم الآخر، لكن ذلك لا يعني التطابق بين الحزبين في السلوك السياسي أو أنماط المقاربات، حيث شهد العقدان الأخيران ثلاثة أنماط سلوكية مختلفة بين الرؤساء أيضاً، وحتى بين الرئيسين الجمهوريين جورج بوش الابن ودونالد ترامب، ناهيك عن اختلاف السلوك بينهما وأنماطه في عهد باراك أوباما الديمقراطي، ولذلك فإن النظر إلى هذه المفارقات في السلوك السياسي والأمني والاقتصادي بين الحزبين ما بين دونالد ترامب وجو بايدن يتوقع أن يشهد تحولات مهمة، وأساسها الانفتاح على العالم، واستخدام سياسات الاحتواء المزدوج، وارتفاع منسوب الاهتمام بالحريات العامة والصحفية والحزبية، وبحقوق الإنسان. ولقد عانى الأردن من ضغط شديد في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على صعيد عملية السلام وعلى صعيد تنامي دور دول صديقة للأردن على حسابه، وفرض عملية التطبيع رغبة ورهبة على دول عربية عدة تسببت بتهميش واضح لدور الأردن في عملية السلام وفي القضية الفلسطينية، وفي العلاقات مع إسرائيل، خصوصاً في عهد حكومات إسرائيلية يقودها اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو الذي لم تكن علاقاته أبداً على ما يرام مع الأردن وملكه، ما دعا الملك للإعلان عن سوء العلاقات أمام العالم وأمام قيادات الكونغرس الأمريكي، أي إن الأردن كان يعيش حالة من الضغط والابتزاز السياسي في مجال الاقتصاد والدور من حلفائه التقليديين ومن إسرائيل كما من الإدارة الأمريكية، وهي حالة نادرة عاشها الأردن في عهد الملك عبدالله الثاني. وعلى صعيد التحول الاستراتيجي الممكن في ظل الإدارة الجديدة، فان دور دول حليفة أخرى في الشرق الأوسط سوف يتراجع لاعتبارات جيوسياسية وجيواستراتيجية أمريكية وشرق أوسطية، كما أن إسرائيل تشهد تراجعاً في قوتها السياسية في ظل سقوط حكومة بنيامين نتنياهو، وتضعضع حزبه وانقسامه، والتحضير لانتخابات مبكرة في أذار/ مارس عام 2021، ما يفتح الفرصة للأردن ليأخذ دوره الطبيعي، وليتراجع ضغط الدول الصديقة العربية عليه، وليعطى فرصة التقاط الأنفاس الداخلية بالعودة إلى مسار ديمقراطي وسياسي داخلي أفضل، أساسه تعزيز الحريات العامة والصحفية، وتنشيط الحياة الحزبية، واحتواء القوى الإسلامية والمعارضة الأخرى في النظام السياسي، والتراجع عن أي خطوات تصعيدية معها، حيث تشكل هذه المكونات أساساً مهماً من أسس الفلسفة الديمقراطية في الحكم، والتي شهدها عهد أوباما نسبياً، باستثناءات خاصة لها مقاربات أخرى. من هنا فإن الأردن أمام فرصة سانحة لتطوير دوره الإقليمي والعربي خلال الأعوام الأربعة القادمة، بما في ذلك بروز فرصة أكبر لتراجع الضغوط في مقابل توفر فرص الدعم الاقتصادي والاستثمار الأوسع في البلاد، وهو ما سينعكس على تعزيز استقرار الحكم والاستقرار السياسي والاجتماعي وفتح الفرصة للاستقرار الاقتصادي. والسؤال الأساسي أمام صانع القرار الأردني اليوم، هل الأردن مستعد للتعامل مع هذه المتغيرات بعقلية منفتحة من جهة وببرامج وسياسات مناسبة وبحكومة وقيادات سياسية مناسبة للاستفادة من هذا التحول المتوقع خلال هذا العام وحتى العام 2024 من جهة أخرى؟ وهل يمكن أن يبادر الأردن بتغييرات مهمة على هذا الصعيد للتجهّز والاستعداد لقطف ثمار هذا التحول، ابتداء بتعزيز الحريات العامة وتنشيط العمل الحزبي وتقوية دور البرلمان في القرار وتخفيف الضغوط الحكومية عليه، وإعطاء القوى المعارضة، وخاصة الإسلامية منها، فرصة المشاركة الواسعة في الصورة الرئيسية للدولة عبر البرلمان والعمل المدني والحزبي والنقابي؟ وعلى الصعيد الخارجي والإقليمي هل لدى الأردن رؤية أو يمكنه أن يبني رؤية لدوره في القضية الفلسطينية في عهد الإدارة الجديدة، وحتى في مجالات الأمن والاستقرار في المنطقة، وهل لديه مقاربات جاهزة ليقترحها على الرئيس الجديد لتكون جزءاً من توجهاته وسياسات إدارته، وهل سيشكل الأردن نموذجاً للديمقراطية النسبية في المنطقة يمكن للإدارة الأمريكية الجديدة أن تأخذه بالاعتبار في تطوير أدوار الحلفاء في الشرق الأوسط، وربما إعادة تموضعهم في هرم الأهمية خلافا لعهد دونالد ترامب؟ من المفترض أن هذه المسالة أصبحت من الديناميكيات الأساسية التي يجب أن تحرك العقل الأردني والقرار الأردني لاتخاذها سريعا وبإشارات ورسائل حقيقية وواقعية بعيداً عن الآمال وبعيداً عن التخوفات، مثل تخفيف التدخلات الأمنية في العملية السياسية والحياة المدنية، وتراجع استهداف الحركة الإسلامية وحزبها والأحزاب المعارضة الأخرى، بل وتخفيف التدخل في الأحزاب الموالية وتوجيه دفتها بإدارة ذات بعد أمني، والعمل على إجراء انتخابات شفافة للبلديات وللنقابات وللعمل الطلابي في الجامعات، وسرعة تعديل القوانين الضاغطة على الحريات العامة والاقتصاد والاستثمار مثل قانون غسيل الأموال والإرهاب ومحكمة أمن الدولة وغيرها؟ على الأردن أن يستعد لدخول مرحلة جديدة تحسم دوره ومستقبله في المنطقة لصالحه ولصالح أمنه الوطني والقومي، وعليه استجماع أوراق القوة بالوحدة الوطنية في الداخل والقائمة على الحريات والشراكة والديمقراطية، والقائمة على الاستناد إلى وحدة الموقف الفلسطيني ومساعدته على بلورة معطيات جديدة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. وفي هذا السياق ربما يراقب القريبون من صناعة القرار والجهات المعنية تسارع التحول في مواقف عدد من حلفاء الأدن والولايات المتحدة إزاء سياسات كانوا قد ضغطوا على الأردن لتبنيها وتحمل تبعاتها تجاه سوريا وليبيا مثلا (زيارة الوفد المصري الى طرابلس)، وتجاه الديمقراطية والأحزاب والحريات العامة، وتجاه العلاقات مع تركيا وإيران، حيث يتوقع أن يشهد عهد الإدارة الجديدة تحولات أساسية في هذه الملفات الإقليمية المختلفة والحساسة، ويبدو أن الذين يستعدون ويخططون مسبقاً يقطفون الثمار مبكراً، وأما الذين يتأخرون ويؤخرون توجهاتهم وينتظرون فيبدو أن كثيراً من ثمار هذه التحولات قد تفوتهم. ظل الأردن تاريخياً دولة محورية ودولة ذات بعد جيوسياسي ودور استراتيجي حيوي بالنسبة للإدارات الأمريكية (باستثناء عهد دونالد ترامب)، ويتطلع الأردن اليوم إلى فرصة جديدة لاستعادة مختلف أوراقه الداخلية الخارجية، وفي القضية الفلسطينية، وبالتالي استعادة قوته الجيوسياسية وقوة أدائه وعقلانيته في المقاربات الإقليمية المختلفة، وابتعاده عن الاصطفاف في المحاور المتصارعة أو خصومات الأصدقاء، كما في الأزمة الخليجية، أو كما في المعركة التي يخوضها البعض لأهداف ومرامٍ خاصة ضد حركات الإسلام السياسي المعتدلة مثل جماعة الاخوان المسلمين مثلاً لاعتبارات داخلية، وأحياناً أخرى لا علاقة للحالة الأردنية بها على الإطلاق، وقد حاول الأردن بالفعل النأي بنفسه عن هذه المسارات لكن الضغط لم يتوقف، وهو اليوم يمكنه تنفس الصعداء، فحتى السائرون في هذا الدرب لم يعد لهم غطاء دولي يساعدهم أمام القانون الدولي وحقوق الإنسان، وهم يحاولون وسيحاولون تعديل سلوكهم سواءً تفهماً للتغير أو تحت الضغط من الإدارة الأميركية الجديدة، وتعد دعوة رئيس البرلمان التونسي السيد راشد الغنوشي لزيارة مجلس النواب الأمريكي إشارة مبكرة على هذه التحولات، فعلى الأردن أن لا يكون بعيداً عنها إن لم يكن شريكاً فيها وفي رسمها مع الإدارة الجديدة، دون خشية من الضغوط ومحاولات الابتزاز السابقة، والتي أصبحت تتراجع وتؤول إلى الصفر خلال السنوات القادمة في عهد هذه الإدارة. وللأردن تاريخياً علاقات قوية مع الكونغرس الأمريكي الديمقراطي وبعض الجمهوري، ويمكنه الشروع بالتواصل واستثمار الفرصة والإسهام في رسم هذه التوجهات بعقلية أردنية منفتحة متوازنة وعميقة الفهم كما كان دائماً في عهدي الملك الحسين والملك عبد الله الثاني لتعميق التفهم الأميركي لظروفه وتوازناته الداخلية والإقليمية. ولذلك فإن النظر إلى هذا التحول بواقعية دون مبالغة من جهة، ودون التقليل من أهميته من جهة أخرى، إنما يفضي إلى النظر بجدية لإعداد مشاريع عملية أردنية، واتخاذ إجراءات تؤدي في محصلتها إلى تحقيق الاستقرار والتوازن الداخلي في المجتمع، وتشجيع التنمية والتطور الاقتصادي، وطبعاً مع ممارسة أقصى درجات الشفافية، وتفعيل دور مجلس النواب الجديد، والتدخل الملكي المباشر بإعادة الثقة في مؤسسات الدولة في العملية السياسية وتشجيع الحياة الحزبية وحرية العمل، بلقاءات مع الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، وعلى رأسها الحركة الإسلامية، وزيادة المشاركة والشراكة السياسية في البلاد، سواء بتطوير التشريعات أو الإجراءات والأنظمة، أو بإشراك القوى السياسية المعارضة الرئيسية في الحكومة، وكذلك في بلورة رؤية أردنية متماسكة للتعاون مع الإدارة الأمريكية الجديدة في حل أزمات المنطقة بدور قوي ومتوازن في كل من ليبيا وسوريا واليمن والعراق، بعيداً عن التموضعات الصفرية التي حاول البعض دفع الأردن إليها خلال عهد ترامب، وكذلك في الصراع العربي- الإسرائيلي بشقه الفلسطيني والعربي على حد سواء لمحاولة نزع فتائل الحروب والعنف، وعدم توفير الفرصة والحجج للجماعات المتطرفة والإرهابية أن تُنشئ بيئة حاضنة أو تغرّر بالشباب العربي كما حصل في العقد الماضي 2010-2020. ويخلص هذا التحليل ليؤكد أن ثمة فرصة ربما تلوح أمام الأردن بالتحول في الإدارة الأمريكية، وأن عليه المسير لتوفير شروط التحول الخاص بوضعه الداخلي وبدوره الإقليمي، وباستعادة أهميته في السياسات الدولية من جهة، وفي السياسة العربية والإسلامية من جهة أخرى، وأنه إن نجح باستباق التحول وفق ما أشار إليه التحليل فإنه قد يكون شريكاً في إعادة بناء الواقع الصعب في المنطقة، بما في ذلك بناء التسويات، ووقف الاحتراب الداخلي، وإنشاء نموذج للحريات والديمقراطية والشراكة الوطنية، وسوف تنظر إليه الإدارة الأمريكية نموذجاً ناجحاً في الشرق الأوسط. ويعتقد بأن العوامل الداخلية المتماسكة والقوية تساعد في حال استجماعها ووقف الاستهداف لقواها الحية أن تشارك بقوة في رسم هذا التحول الأردني لتطوير التنمية والبناء وإنهاء الأزمة الاقتصادية، وتنمية القطاعات الصحية والزراعية والصناعية، والحياة الحزبية والبرلمانية، وتقوية الحكومات برجال السياسة والاقتصاد من مختلف الأحزاب، وبالتالي تقوية الوضع الجيوسياسي للمملكة وفتح الأفق أمامها نحو دور جيواستراتيجي حيوي في التعامل والعلاقة مع الإدارة الأمريكية والعالم العربي والإسلامي، وحتى مع دول الخليج العربي وتركيا وإيران على المدى المتوسط والبعيد. وعلى صعيد آخر، وفي ظل هذا التحليل للتحول، فإن على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تسعى لتقوية الدور الأردني الخلّاق وفق التجربة التاريخية، كما عليها أن تخفف الضغوط على الأردن لصالح إنعاش وضعه الداخلي واقتصاده واستقراره السياسي والاجتماعي، حتى يتمكن من المساعدة بالفعل في إعادة الاستقرار إلى المنطقة بعقليته المتزنة وعلاقاته الودية والجدية مع الجميع، وحتى لا تتيح الفرص للاعبين الآخرين للّعب في داخل المملكة أو الضغط عليها عبر البوابة الاقتصادية أو الأمنية أو غيرها، وليشعر الأردن بطمأنينة تساعده على سرعة التحول إلى دولة ديمقراطية نموذج في المنطقة كما كانت تطمح الإدارات الديمقراطية المتتابعة، وعلى حد تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق الديمقراطي بل كلنتون خلال تأبين الراحل الملك الحسين عام 1999: "لن ندع الأردن وحده، وسنقف معه بكل قوة ليكون دولة حديثة ديمقراطية". انتهى * فريق تحرير مجلة دراسات شرق أوسطية. المقال الافتتاحي- مجلة دراسات شرق أوسطية- العدد 94
|
|
|
|
---|