|
بين حماس وفتح جواد الحمد* تشكّل حركتا حماس وفتح القوة الكبرى في الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، حيث شهدت جميع أنواع الانتخابات الفلسطينية حصولهما معًا على ما يصل إلى 85-90% من الأصوات في الأغلب، ولذلك تعدّ الحركتان أساس القوة السياسية للشعب الفلسطيني، ولا يعني ذلك أبدًا التقليل من شأن أيّ فصيل أو قوّة سياسية أو اجتماعية أو شخصيات مستقلّة، بل يشار إلى ذلك لفهم الصورة والواقع وتوازن القوة السياسي والاجتماعي في الشعب الفلسطيني ليتم الاستناد إليه في التحليل والتقدير، مع العلم أن معظم تلك القوى أيضًا إمّا أن تكون حليفًا لفتح أو حليفًا لحماس مع تحوّلات جزئية بنسب قليلة جدًّا. واستنادًا إلى هذه الفرضية التي يدعمها الواقع والذي يعرفه المشتغلون بالسياسة الفلسطينية والعربية والدولية المتعلقة بالصراع العربي- الإسرائيلي، فإن البحث عن خيارات مستقبلية لحلّ القضية الفلسطينية على طريق تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني لا يمكن له أن ينجح إلا إذا توافقت الحركتان على قبوله والتعامل معه، أو شاركت الحركتان في بلورته والتوصل إليه. وقد جرت محاولات كثيرة عربية ودولية للتوصل إلى مبادرات وتفاهمات لم يكن الطرفان شركاء فيها، وسقطت جميعها في الاختبار في الأيام الأولى لإعلانها، فيما جُرِّب التوصّل مع حركة فتح مثلًا إلى اتفاق أوسلو والذي عارضته وقاومته حركة حماس، ولم يقف الاتفاق على قدميه أيضًا رغم مرور 25 عامًا على توقيعه، كما جَرّب العرب التوصّل إلى مبادرة جماعية سكت عنها الفلسطينيون لقناعتهم بأنها لن تنجح لأن إسرائيل لا تسعى ولا تفكر بالسلام مع الفلسطينيين والعرب، وقدّمت هذه المبادرة التطبيع الشامل مع الاحتلال ثمنًا مقدمًا للانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، وترك بقية فلسطين لإسرائيل إلى ما لا نهاية، وقد فشلت مثل هذه المبادرات والاتفاقات منذ النكبة عام 1948 مرورًا بالنكسة عام 1967، وهلم جرًا، حيث كان العامل الفلسطيني الذي هو الفاعل الأهم ولا يزال، وقد تم إهماله فيها كلها. واليوم تحاول الولايات المتحدة وإسرائيل توريط دول عربية في عملية تطبيع وتحالف ومشاركة أمنية واقتصادية وسياسية مع إسرائيل بلا رؤية ولا مقابل يتعلق بالصراع العربي معها، ولا باحتلالها لفلسطين، ولا بتهديدها للأمن القومي العربي والأمن القُطري لكلّ دولة منها، بمعنى أن التوجه مجرد استجابة لمطالب وضغوط الطرف الأمريكي والإسرائيلي، وليس تفاهمًا يقوم على مصالح مشتركة حقيقية، وما أُقحِم فيه من موضوع مواجهة خطر إيران هي أطروحة قديمة؛ فقد كانت ذات الحجّة في تكديس دول الخليج للسلاح الأمريكي عندما كان يحكم إيران الشاه محمد رضا بهلوي حليف الولايات المتحدة، وسمّي في حينها في الفكر السياسي الخليجي بـ "شرطي الخليج". وبعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 استمرت الولايات المتحدة وبطرق متعدّدة باستخدام التهديد الإيراني لأمن دول الخليج والعراق لبيع السلاح والاستحواذ على النفط ولضمان تواجد القوّات الأمريكية وقواعدها في المنطقة بما فيها تشجيع الحرب العراقية- الإيرانية لثماني سنوات، وبالتالي فإن سياسة الولايات المتحدة هي استمرار الترويج للفكرة بما يحقّق للأمريكيين مصالحهم الخاصة وحماية ودعم إسرائيل، وعندما وقّعت الولايات المتحدة الاتفاق النووي مع ايران عام 2015 لم تستشر أيّ دولة خليجية، وكأن إيران تقع على حدود الولايات المتحدة مثلًا، ولمّا انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي بدوافع لا علاقة لها بأمن الخليج لم تستشر أيًّا من دول الخليج أيضًا، بمعنى أنّ مسألة مواجهة الخطر الإيراني، رغم أن سياسات وممارسات إيران الطائفية في العراق وسوريا واليمن تعتبر تهديدًا للعالم العربي وللمصالح العربية، إنما هي تُستخدم كتبرير غربي لابتزاز المال العربي، وبيع السلاح، والتطبيع مع إسرائيل، والتخلّي عن القضية الفلسطينية، وليس لمواجهة إيران وحماية أمن دول الخليج العربي، وها هي حال العراق مثال صارخ على تنسيق أمريكي- إيراني ما بعد القضاء على حكم صدام حسين عام 2003. لذلك فإن فشل حركتي حماس وفتح في التوصل إلى رؤية مشتركة وبرنامج سياسي مشترك ترك القضية الفلسطينية ورقة تلعب بها الولايات المتحدة وإسرائيل مع دول عربية بشكل مباشر، وأتاح المجال لعدد من الحكومات العربية نحو مزيد من التراجع في موقفها وتخلّيها عن القضية الفلسطينية، وعن الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ولم تحافظ على القضية بوصفها قضية قائمة في جوهرها على إنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين الفلسطينيين وإقامة دولتهم المستقلة كاملة السيادة على أرض فلسطين، وحتى ما طرحه الأمريكيون من حلّ الدولتين خلال 16 عامًا لم يعد قائمًا في الاجتماعات واللقاءات العربية- الإسرائيلية كما حصل مؤخرًا في "مؤتمر الشرق الأوسط بوارسو" في 13-14 شباط/ فبراير 2019 لدى عدد من حكومات العرب. ومن هنا، تهدف هذه المناقشة إلى وضع النقاط على الحروف في أهمية التفاهم واللقاء والتحالف بين فتح وحماس لحماية القضية الفلسطينية من أن تكون فُتاتًا على موائد العلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية العربية مع إسرائيل وبرعاية الولايات المتحدة. صحيح أن العالم لا يستطيع أن يفرض على الشعب الفلسطيني ما لا يقبله ولا يُحقّق له طموحه، لكنّ هذه التوجهات العربية المتراجعة ستدعم بقاء الاحتلال، وتضعف الوضع السياسي والدولي للقضية الفلسطينية، وربما تدفع العديد من الدول العربية الأخرى إلى الوراء عن مشاركتها في مسألة الصراع بكلّ مستوياته، كما يجري في الدبلوماسية العربية على المستوى الدولي، والذي يكشف بعضًا من هذه المعضلة المتزايدة حسبما يتسرب من كواليس الحوارات واللقاءات المختلفة هناك للدبلوماسيين العرب مع القادة والدبلوماسيين الغربيين. وثمّة مسألة لا بدّ من إثارتها قبل الوصول إلى نتائج هذا التحليل، وهي أن للفشل الفلسطيني أسباباً عربية ودولية وإسرائيلية، كما أن له أسبابًا فلسطينية حزبية وفصائلية، وأسبابًا موضوعية وبيئية، ولا يخلي ذلك المسؤولية عن كاهل كلٍّ من فتح وحماس، وبالطبع بتفاوت نسبيّ إزاء كلّ مسألة، لكن المشهد الفلسطيني المنقسم اليوم في النهاية يمثل ردّة فعل رجعية ضدّ القضية الفلسطينية، مهما احتج أيّ طرف ضد الآخر حتى لو كان محقًا. ويشير التفكير الهادئ والموضوعي إلى أن ثمّة عقبات فلسطينية تُستخدَم أو تُقحِم نفسها لإعاقة مثل هذه التفاهمات أن تُطبق رغم أنها وصلت إلى أكثر من 70 صفحة مكتوبة، وأكثر من 13 عشر اتفاقًا جزئيًا وكلّيًا خلال 12 عامًا، ولذلك فإنّ مبادرة اللقاء بدون شروط مسبقة أو حتى جدول أعمال معلن لبحث المشكلة والتوصل إلى آليات، ولو مرحلية وجزئية، لتوحيد الموقف السياسي الفلسطيني وحماية القضية الفلسطينية، وبالاستناد إلى مواقف عربية محدودة متماسكة إزاء عدد من ملفات القضية مثل القدس واللاجئين وإقامة الدولة على الأقل، ستشكّل رافعة استراتيجية لكلٍّ من حماس وفتح لتحويل هذه المواقف إلى ديناميكية فاعلة في تعطيل التطبيع الصهيوني مع بعض العرب، ويمنع أن تكون إيران العدو البديل لإسرائيل تحت جميع الذرائع، وعندها فإن المقاومة المسلحة والشعبية والسياسية القانونية ستشكّل حالة استعصاء حقيقي وواقعي مسنودٍ ببعض الدعم العربي والدولي النسبي، وهو ما سيفرض على العرب، كما على المجتمع الدولي، إعادة الاعتبار للطرف الفلسطيني الموحَّد من جهة، وللشعب الفلسطيني المقاوم للاحتلال من جهة أخرى، ويعيد الموقف الدولي إلى مربّع إدانة إسرائيل وممارسة الضغط عليها لإنهاء الاحتلال، وبالتالي الوقوف إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة والمشروعة. ختاماً، يُعتقد بأن الظرف خطير، وأن المرحلة حساسة، وأن حجم الترهل في الأداء العربي واسع، وأن الانقسام في الموقف الفلسطيني شمّاعة لكلّ ضعيف من العرب والأفارقة ودول عدم الانحياز للتراجع عن مواقفها السابقة في دعم القضية الفلسطينية، وإن الذي يستطيع أن يأخذ زمام المبادرة في تحويل الدفّة واتجاهات الريح نحو إنهاء الاحتلال فعلًا لا شعارات هو كلّ من قيادتَي حماس وفتح الجماعيتَين في اجتماعٍ شاملٍ لهما في أيّ مكان، والتوصل إلى آليات عملية والخروج بتفاهمات مركَّزة ومحدّدة أمام الشعب الفلسطيني وأمام العالم، ويُعتقد بأن الفرصة اليوم أصبحت سانحة أكثر من أيّ وقت مضى وقبل أن تتمكن بعض الأطراف الدولية والعربية مع إسرائيل من خلق وقائع أكثر إشكالية وتعقيدًا من القائم منها اليوم. ومن شأن تفاهمات من هذا النوع أن تقوّي الموقف الفلسطيني وتمنع أيّ تدخلات سلبية في الشأن الفلسطيني من جهة، وكذلك من شأنها أن تقوّض محاولات التطبيع أو "الشراكة" مع إسرائيل من قبل أيّ طرف عربي من جهة أخرى. وليكون أساس التفاهم بين كلٍّ من فتح وحماس على قاعدة أنه "ليس لأيٍّ منهما خيار إلاّ التفاهم والعمل المشترك مع الآخر". * رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط، ورئيس تحرير مجلة دراسات شرق أوسطية، عمان- الأردن. ويشار إلى أن هذا المقال نُشر في افتتاحية مجلة دراسات شرق أوسطية، عدد 86، شتاء 2019. |
|
|
|
---|