|
مركز دراسات الشرق الأوسط – الأردن لأول مرة في تاريخها تعايش الأمة العربية حالة الفوضى القائمة بمختلف تداخلاتها، ويمثل المشهد السوري والعراقي واليمني والليبي صورة مزرية لحالها، فبرغم أشكال الفوضى التي عانتها قارات ودول على مدى تاريخها الطويل، لكننا نشهد هذه الفوضى بهذه الصورة لأول مرة، ولذلك فهي طارئة على حضارتنا وقيمنا، وعلى القوى السياسية والاجتماعية، وكذلك على القضية الفلسطينية التي أضحت خارج السياق العربي للمرة الأولى أيضاً، وبذلك فهي لحظات تاريخية عابرة للزمن، لا تلبث أن تشهد تغيرات كبيرة ومفاجئة للانتقال إلى مربعات مختلفة تقود إلى حالة جديدة من التوازن السياسي والاستقرار وتراجع فكر الإرهاب والتطرف والفوضى لصالح الفكر العربي الإسلامي الأصيل المعتدل، وعندها سوف تتغير معادلات السياسات الإقليمية والدولية شكلاً ومضموناً. المشهد السياسي وأبعاده الاستراتيجية نعني بالمشهد السياسي إدراك الديناميكية السياسية الفاعلة، وخارطة اللاعبين وعلاقاتهم، والإمكانات التي يملكها كل منهم لتطوير الواقع السياسي في المستقبل القريب، فعلى صعيد الديناميكية السياسية الفاعلة تشكل حالة الفوضى والتدخلات العسكرية والسياسية المتعددة الأطراف والمسميات والأهداف، الأدوات الأكثر ديناميكية في رسم المشهد، كما توازيها تحركات سياسية على شكل دول منفردة أحياناً وأحلاف أحياناً اخرى، وربما على شكل مجموعات عمل، حيث تلعب القوى السياسية والاجتماعية في المنطقة دوراً حيوياً في التأثير على طبيعة المشهد وتركيبته المعقدة، فيما تشكل العوامل الإقليمية والدولية إطاراً صعباً لإمكانية وصول المفاعيل المحلية إلى أي هدف، باستثناء ما يتقاطع منها مع مصالح عدد من الفاعلين الإقليميين والدوليين. وتظهر هنا مجموعتان أساسيتان من الفاعلين المحليين، الأولى ترتبط بعقلية التغيير السياسي والاستقلال والحرية والديمقراطية، والثانية ترتبط بعقلية المحافظة على الوضع القائم في تحقيق المصالح النخبوية للحكم مع علاقاتها الإقليمية والدولية، في مشهد متعدد المشارب والعوامل ومتغير التحالفات. ويقع العالم العربي برمته تحت ضغط هذه المتغيرات الجارية، وبتأثيراتها المتعددة، لتقع القضية الفلسطينية في دائرة الجمود في ظل حكومة إسرائيلية لا تؤمن أصلاً بالسلام مع الفلسطينيين، ولا تؤمن حتى بتطبيق ما توقع عليه، بينما يقف العالم العربي منقسماً فكرياً وسياسياً إزاء ذلك، بين من يريد التخلص من القضية الفلسطينية وبين من يعتقد أنه لا بد من إقامة دولة فلسطينية وانسحاب إسرائيل بطروحات متعددة. في ظل هذا المشهد اندلعت الأزمة الخليجية، ما وفر فرصة لاستثمارها لصالح برنامجين أساسيين: الأول: تمكين القوى الإقليمية والكبرى من إحداث تغيير في خارطة القوى السياسية في المنطقة، والثاني: تمكين إسرائيل من تحقيق الوضع الاستراتيجي المريح للاندماج في المنطقة وتحجيم أهمية القضية الفلسطينية ودورها. لذلك فإن المشهد السياسي القائم في المنطقة مشهد متحرك يحمل الكثير من الفرص والتحديات لمختلف الأطراف، ولا يتمتع فيه أي طرف بالسيادة والتحكم على وجه الإجمال، ولذلك فإن الأفق الاستراتيجي والأبعاد الاستراتيجية للمشهد لا تزال تحاول تشكيل روافع لها، كلٌّ من موقفه ووفق برنامجه. العوامل المؤثرة وأهم الأطراف ذات التأثير المباشر ثمة عوامل وأطراف تعد الأكثر تأثيراً في هذا المشهد ستكون محط التحليل والتوقع، من أهمها: 1. الأطراف المحلية: وتتشكل من عدة مكونات، مما عرف بالثورة والثورة المضادة، وتيار الإسلام السياسي المعتدل والتيار التغريبي، وتيار الإصلاح والديمقراطية وتيار المحافظة على مكاسب النخب الحاكمة وعلاقاتها الخارجية، والتيار الليبرالي بتنوعاته. 2. الأطراف الإقليمية: حيث تبدو كل من إيران وتركيا الأكثر فاعلية في عموم المشهد بتفاوت، ويعد أي تقارب بينهما فرصة للتوصل إلى رؤية مصلحية اقتصادية وأمنية وفكرية وسياسية لهما، قد تتقاطع مع أطراف محلية مهمة، خاصة أن إيران ربما تكون أهم الفاعلين في سوريا والعراق واليمن على وجه التحديد، وكذلك في معادلة التوازن الاستراتيجي في القضية الفلسطينية، أخذاً بعين الاعتبار الإشكال الطائفي وأبعاده في السياسة الخارجية الإيرانية وتداعياته على صورتها ومستقبلها. 3. الأطراف الدولية: انطلاقاً من اعتقادها بأن ظرف المنطقة ومعطياته لم تنضج بشكل كافٍ لتحقيق أهدافها ومصالحها، وتحاول الأطراف الدولية منفردة، وأحياناً مجتمعة- ولو بعباءة الأمم المتحدة- أن تفرض معادلات لا تنهي الصراعات بقدر ما تسعِّرها، وأحياناً تديرها ولا تعالجها. 4. القضية الفلسطينية: يشكل جمود القضية ومحاصرتها، ومحاصرة قياداتها السياسية في رام الله أو غزة أو في الخارج، وفي فلسطين المحتلة عام 1948، إحدى أدوات الفعل القوية في تفتيت الأدوار العربية، وتوزع دولها على محاور ربما متصارعة، بل ويشكل مصدراً مهماً لتغيير القواعد الأمنية والعسكرية في التفكير العربي، ما تسبب بتراجع نظرتها لأولوية التصدي للخطر الإسرائيلي على الأمن القُطري والقومي للدول العربية، ويبدو في الأفق القريب العجز الكبير لدى الأطراف الفلسطينية أن تحدث نقلة نوعية في الواقع، لأن القيادة القائمة بكل تشكيلاتها وبأدواتها الواقعية عاجزة عن التغيير والتحريك، ما يفتح التفكير على أهمية بناء قيادة جديدة تعمل على تحريك هذا العامل باتجاهات تساعد على تحديد أوسع وأدق لاتجاهات التحولات في المنطقة، وبما يصب في صالح القضية الفلسطينية. الاتجاهات المستقبلية والمحددات العامة للمشهد القادم وتحولاته يعد الاتجاه نحو الاستمرار في الصراع رهاناً على تغير تحالفات، وتراجع أطراف واستنزاف أطراف لتحقيق أكبر قدر من المكاسب عند الوصول إلى طاولة الحوار، كما هو الحال في ليبيا وفلسطين واليمن وسوريا، ويعد من أبرز الاتجاهات للمشهد السياسي بأدواته العسكرية والأمنية والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى الاتجاه نحو تدخلات إقليمية تتقاسم الأدوار والمصالح لتحقيق أكبر قدر من مصالح كل منها مع توفير بيئة إقليمية جديدة ربما تُرشح لها وتعمل عليها كل من تركيا وإيران. وفيما يتعلق بالمحددات العامة للمشهد القادم وتحولاته، فإن أهمها: 1. قدرات المنظمات الإرهابية على توسيع نطاق عملياتها وتقوية ارتباطاتها بأجندات دول إقليمية ودولية. 2. قدرة المجتمع الدولي على التوصل إلى رؤية مشتركة حقيقية للمشهد بعيداً عن عجز الأمم المتحدة. 3. قدرة كل من تركيا وإيران مدعومة من بعض دول عربية على الوصول إلى رؤية تفرضها على القوى المحلية وعلى المجتمع الدولي. 4. قدرة الأطراف الفلسطينية على إعادة الحضور والقوة للقضية الفلسطينية بما يزيد من عوامل الدفع باتجاه إنهاء الفوضى وحالة عدم الاستقرار. وختاماً، يمكن القول بأنه تم اللعب كثيراً على نظرية الاستنزاف لغالبية الأطراف، وهي تسعى للوصول إلى نهاية سريعة لحل سياسي في كل الأقطار بسبب تداعيات هذا الاستنزاف الاقتصادي والأمني عليها، لكن أيّاً منها لا يملك حتى اللحظة كامل الرؤية ولا الشجاعة ولا الأدوات الكافية ولا الضمانات اللازمة لتحقيق أهدافه أو بعضٍ منها، لذلك تستخدم مسارات الحلول السياسية لتحسين أوضاع اللاعبين وزيادة حصتهم ودورهم المستقبلي. التحرير * افتتاحية مجلة دراسات شرق أوسطية، عدد 81، خريف 2017. |
|
|
|
---|