مؤشرات التحول ومحاولات الإعاقة
في الوطن العربي
الأستاذ جواد الحمد
- صحيفة السبيل -
30/7/2012
شكلت البيئة
العربية السياسية والاجتماعية الجديدة بعد الثورات الكبرى في مصر
وتونس عام 2011 حاضنة دافئة لعمليات التغيير الاجتماعي وديناميكيات
التغيير السياسي في الوطن العربي، واتجهت في معظمها نحو إعادة بناء
النظام السياسي ليتحول إلى نظام ديمقراطي تعددي حداثي يقيم الدولة
العربية المدنية على أساس المواطنة والدستور والقانون، ويحقق
للمواطنين المساواة والعدالة، ويوفر لهم الحرية والفرص المتكافئة
على مختلف المستويات، ويستعيد الهوية الحضارية للأمة العربية
وعمقها وتراثها.
لكن قوى الفساد والتخلف الاجتماعي شرعت بوضع العصي في الدواليب
لمنع حركة التغيير هذه من تحقيق أهدافها، واستخدمت المؤسسات
التشريعية القائمة تارة، وقوات الجيش والأمن تارة أخرى، والقضاء
تارة ثالثة، ولجأت إلى حرب الإعلام والإشاعة لتشويش الرأي العام
وتضليله ومنعه من دعم عملية التغيير في كل هذه المحاولات تارة
رابعة، ذلكم أن التغيير الاجتماعي المقصود هو تأسيس واقع نهضوي
عميق يقضي على فرص الفساد والظلم والاستبداد، بل والانحراف الحضاري
والفكري والأخلاقي المعياري للدولة والمجتمع، وهي البيئة التي
اعتادت هذه القوى العيش فيها واستمرأتها زمناً طويلاً، ما جعل
صراعها مع عمليات التغيير صراع وجود وفق تقديرها، ولم تأخذ
بالاعتبار أي مصلحة للوطن أو الناس كما اعتادت أن تفعل، ولذلك فقد
انشغلت قوى التغيير بمعارك جانبية دامية سياسياً وقضائياً
واجتماعياً وإعلامياً، وتضافرت أدوات هذه القوى والمجموعات الرجعية
في الدول العربية المختلفة نصرة لبعضها، ونسقت فلسفتها ومسارها
ومثّلت سندا لبعضها، حتى تمثل ذلك بدول تحتضن الفاسدين وتوفر لهم
كل فرص الحياة الرغيدة، وتحمي أموالهم التي نهبوها من المال العام،
بل ودعمت بعضها بالمال قوى التدمير الاجتماعي المتطرفة، إسلامية
كانت أو غيرها، لتحول دون تمكن قوى التنوير والنهضة الإسلامية
والوطنية من السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، بل وشغلت جماعات
"البلطجية" على مختلف هذه المستويات، وحضت القوى المتمكنة في
البلاد سابقا على مواجهة الوضع الجديد بتخويفها من التغيير لأنه
يطال مصالحها ويحرمها من كل الامتيازات السابقة، ونشرت الشائعات
الوهمية عن تيارات الإسلام السياسي التي تشكل القوى الأهم في
عمليات التغيير، وزعمت وادعت سياسات وسلوكيات لهذه القوى لم تستند
فيها إلى فكر أو تجرة سابقة، وبدأت تتلقط خطأ فرديا هنا وخطأ فردياً
هناك، وجل هدفها تشويش الرأي العام وتضليله ودفعه إلى عدم الثقة
بالمرحلة وقيادتها ومستقبلها، ليمتنع عن الاندفاع للعمل على بناء
النهضة الحديثة، وبالتالي الانتقال إلى سلوك اجتماعي وسياسي يؤدي
إلى التحرر والبناء، وقد نجحت هذه القوى والأدوات لحظياً في ذلك في
كل من مصر وتونس واليمن وسوريا والأردن وليبيا وغيرها من البلدان،
كما ساهمت كثيراً في حرمان الشعوب العربية المنتفضة من إصلاح سياسي
حقيقي استناداً إلى التخوفات والتصورات المشوهة عن الحركة
الإسلامية التي تشكل القوة الأكبر بين مختلف القوى.
إن هذا المشهد السوسيولوجي القائم في البلاد العربية يمثل الصراع
الطبيعي بين الحداثة التي تمثلها الثورات وبين التخلف والرجعية
الذي يمثله المرتبطون بالأنظمة السابقة، وكذلك الصراع بين الحرية
وبين الدكتاتورية، والصراع بين إرادة التغيير الشرعية بصناديق
الاقتراع وبين الوصاية على إرادة الشعوب وتوجهاتهم، وهو صراع مستمر
مع نجاحات الثورة ومع تقدم قوى الثورة الإسلامية وحلفائها إلى سدة
الحكم بالديمقراطية، وإن ساد هذا المشهد لحظة ما وفي مكان ما فإن
مؤشرات التحول الثوري والإصلاحي تبقى الأكثر وضوحاً بل والأكثر
تأثيراً فيما يبدو، لأن الشرعية والإرادة الشعبية تقف خلفها ولأنها
تمثل ضمير الأمة ومصالحها العليا، ومن أهم هذه المؤشرات:
1. تزايد الاعتراف الدولي الواقعي بعمليات التغيير وبالقوى الحاملة
لها كمكوِّن أساسي من المشهد القادم في العالم العربي.
2. تفاقم الهلع والخوف لدى القوى السياسية والأجهزة الإسرائيلية
المختلفة من عمليات التغيير هذه، والتعامل معها بعدم اليقين، بل
والاستعداد لتحولات ممكنة في إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي
ومكوناته.
3. الصبر الذي تبديه القوى الواعدة في الثورات والإصلاحات على
المعارك الجانبية التي تفتحها لها أدوات الإعلام المحكوم بالماضي
وبأموال الماضي وفلسفاته، وصبرها على بطء التحول في الإدارة العامة
للدولة المحكومة، ما يوفر لها فرصة لتحقيق التقدم في المسيرة
الديمقراطية والتنموية في البلاد.
4. نجاح هذه القوى بتشكيل البنية الأساسية للنظام السياسي الجديد
مع بعض الإشكالات، وخاصة ما يتعلق بإجراء الانتخابات العامة الحرة
والنزيهة، وبالشروع بوضع الدساتير الحديثة المعبرة عن إرادة الأمة،
وباختيار حكومات ورئاسات تمثل طموح الجماهير وتطلعاتها.
5. تغير أنماط العلاقة بين الجمهور والقيادات السياسية واتساع
دائرة الحريات العامة وممارسة الحق في الاعتراض والتعبير عن
المطالب، وكسر حاجز الخوف السابق من الأمن والدولة وقياداتها.
6. وقف الهدر الكبير في المال العام والتوجه نحو الشفافية والوضوح
مع المجتمع والدولة في التصرف بثروات البلاد وإمكاناتها.
7. تطور طبيعة العلاقات العربية البينية فيما بين هذه الدول،
وبينها وبين غيرها من الدول العبة ودول الإقليم، والشروع بتكريس
سياسات جديدة تبتعد عن البعد الشخصي والحزبي والفئوي، وتعتمد بدلا
من ذلك المصلحة الوطنية والقومية.
أما فيما يتعلق بمحاولات الإعاقة فقد اتسقت مصالح أطراف خارجية
وقوى النظام السابق وبعض المنتفعين والفاسدين، فشرعت تلك الأطراف
مجتمعة، وإن بدوافع مختلفة، تحاول أن تعيد عقارب الساعة إلى
الوراء، وإن لم تتمكن فعلى الأقل تؤخر عملية التحول بانتظار تحولات
أكبر قد تخدم توجهاتها وطموحه. وهنا اختلط الحابل بالنابل، فرغم
إشكالية تعريف قوى الشد العسكي والقوى المعيقة، بل وإشكالية اعتبار
السلوك السياسي من أي طرف بوصفه محاولة إعاقة الثورة، نظراً لما
يسود هذه المجتمعات الثورية من الحرية التي وفّرت بيئة جددية
وتفكيراً جديداً، حيث التحقت بعض القوى التي حسبت على الثورة
أحياناً بهذه القوى لمصالح ضيقة أو لموقف محدد من بعض القوى
الثورية الأخرى، لتحاول أن تستخدم البيئة المناهضة لقوة من قوى
الثورة بزج موقفها الناقد أو المختلف في أتون صراع ليس لها فيه
ناقة ولا جمل إلا الانتقام أو إثبات الذات أو منع الآخر من قطف
ثمرة كفاحه وتأييده الشعبي، كما حصل في مصر وتونس على وجه التحديد،
الأمر الذي يضعف قدرة قوى الثورة الحاكمة أو المتصدرة من إقناع
الشارع بحقيقة هذه الإعاقات، وبالتالي استمرار انخداع الجمهور بها،
ومن هنا يمكن رصد بعض مؤشرات الإعاقة لمسيرة التحول والتقدم الثوري
العربية مع التحفظ، وأهم ذلك: 1. استمرار سيطرة رموز وشخصيات
وأفكار ماضوية على الإعلام، وتوجيهه ضد قيادات وبرامج وإنجازات قوى
الثورة. 2. تفعيل الاحتجاجات القطاعية المطلبية الواسعة، والزج
بالجمهور في الشارع بمطالب صعبة وتعجيزية أحياناً من حكومات
(وأحياناً برلمانات كما في مصر!) لا تكاد تستقر في مواقعها ولا
تملك بعد الإمكانات القادرة على تحقيق مطالب الجمهور مهما كانت
عادلة. 3. العمل الخارجي المشترك مع بعض القوى في الداخل، وخاصة
بعض رموز مؤسسات المجتمع المدني المدعومة من الغرب أو إيران أو
روسيا، وبعض أرباب المصالح الفاسدة من العهد الماضي. 4. الهجوم على
الهوية الحضارية للأمة بطريقة تخويفية غير مسبوقة، خاصة ما يتعلق
بالمرجعية الإسلامية للدستور التي تبنتها الثورات العربية بساحات
التغيير والاعتصام، وذلك بفتح معركة فكرية وطائفية تعمل على تقسيم
المجتمع وإعاقته عن النهضة والبناء. 5. الزج بالقضايا الكبرى،
كقضية إلغاء معاهدات التسوية مع إسرائيل، في وجه القوى الحاكمة
وممثليها في البرلمان، في ظل عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي
للبلاد، لإحراج هذه القوى أمام الجماهير. 6. استخدام أسلوب
المطالبة بالمواقف المتطرفة في الضغط على القوى الجديدة، وذلك ضد
الولايات المتحدة وأوروبا، والدفع بتبني الفكر اليساري الاشتراكي
العدمي الذي سقطت تجربته بالكامل في بلاده في التعامل مع العالم
الإمبريالي الغربي، ومحاولة الدفع بمواقف متطرفة تستعدي العالم كما
فعلت ثورات تاريخية سابقة تم محاصرتها وتدميرها. 7. ترويج طروحات
الهيمنة والاستفراد ومصطلحاتهما على من اختاره الشعب في الحكم،
وبرغم التنازلات والتراجعات التي تبديها بعض هذه القوى عن بعض
توجهاتها على هذا الصعيد، وخاصة في مصر، غير أن القوى الناقدة لا
تكف عن الترداد بأنه خطأ تاريخي ولا قيمة للتراجع عنه، وذلك خلافا
للحس والمنطق والعدل التاريخي في تحولات المجتمعات والشعوب. 8. ضعف
إمكانات بعض القوى الثورية في مجال الحكم والإدراة العامة، خاصة في
الشئون الخارجية والاقتصادية، وعدم نجاحها في استقطاب قوى المجتمع
المختلفة وإمكاناتها لتحقيق ذلك. 9. تنامي الجهويات والطائفية
والحزبية الضيقة في الطروحات السياسية وفي الحوار مع الآخر، وضعف
دور المصلحة العامة ونظرية التحالف والشراكة التي سادت إبان
الثورة. إن النظر في مؤشرات عمليات التحول السابقة، ومؤشرات عمليات
الإعاقة فقط يفتح الباب والتفكير أمام المعنيين بصناعة القرار في
دول الثورات والإصلاحات للبحث عن سبل وطرق ووسائل وأفكار خلاقة
وجديدة للخروج من مستويات التأزم والخلاف والصراع الداخلي نحو
التقدم والبناء والشراكة الوطنية، والعمل على إعادة الاعتبار لهذه
الدول إقليميا ودوليا، ورسم المواقف والسياسات المشتركة وبلورتها
إزاء المسائل المعقدة، ووضع الأولويات الوطنية والقومية بمنهجية
عملية واقعية تحقق المصلحة، ولا تستنزف المجتمع والدولة، وأعتقد أن
بعض الحدّة في استخدام بعض التعبيرات لتوصيف القوى التي تعيق
البناء والتقدم إنما هدفت إلى وضع النقاط على الحروف مع الأخذ
بالاعتبار أن تغير المواقف والسياسات من قبل أي شخص أو مؤسسة أو
جهة يمكن أن ينقله من عامل هدم إلى عامل بناء.
رجوع |