ما تزال المنطقة العربية تشهد تحولاً استراتيجياً في بُنية
نظامها السياسي على الصعيد الوطني والإقليمي، ومنذ انطلاق
الحراكات الشعبية على شكل ثورات أو توجهات إصلاحية ظهرت القدرة
الكامنة لديناميكيات المجتمع العربي وحركاته السياسية
التقليدية وبمشاركة فاعلة وأساسية من قطاعات الشباب (الذي سخّر
وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي الحديثة لخدمة برامج هذه
الحراكات).
ومع نجاح ثورتي مصر وتونس بإسقاط النظام سلمياً، ونقل البلدين
إلى جو من الحرية يُؤسس لنظام سياسي ديمقراطي تعددي، سارعت
القوى السياسية والاجتماعية في دول عربية أخرى باستنساخ
التجربة لأن أهداف الثورة في مصر وتونس هي ذات أهداف الثورات
وحراكات الإصلاح في الدول الأخرى التي تستهدف التخلص من الظلم
والاستبداد والفساد الذي يقوده تحالف قوي بين رأس المال والأمن
والسلطة. وبرغم التفاوت في تقدير ونهج تعامل النخب السياسية
الحاكمة مع هذه الحراكات بمطالبها الوطنية المشروعة، غير أن
الخوف من المجهول يُعد القاسم المشترك بينها.
ولذلك فإن اتباع الخيارات الأمنية والمسلحة من قبل النظام ضد
المجتمع تُسبب في تحويل بعض الدول الى دول فاشلة أو تكاد تكون،
بينما نجحت دول أخرى في احتواء الحراك بشكل مرحلي على أقل
تقدير عبر تبني الخيار المزدوج، و الذي يتشكل من توجهات
إصلاحية ويعتمد على نظرية الانفتاح على المجتمع في ذات الوقت،
وتُمثل التجربة العُمانية والمغربية أحد هذه النماذج برغم أن
المطالب الشعبية لم تُحقق بالكامل.
ولذلك فإن حامل التحول أصبح بعد مرور عشرة شهور على هذه
الحراكات أكثر صلابة وتمسكاً بمشروعه لإنهاء الفساد والظلم
والاستبداد، وأكثر استعداداً للتضحية كما نُلاحظ في بعض
الأقطار، كما أن إطالة عمر الحراك مقابل إطالة محاولات الأنظمة
لإنجاح الخيار الأمني فتفحت الباب لاحتمالات التدخل الخارجي
الذي تُعبر قوى الحراك الشعبي عن رفضه من حيث المبدأ، حتى وإن
شعر البعض في ظل العنف المفرط والظلم من قبل الأمن بأن التدخل
الخارجي ربما يكون خياراً قسرياً لا بد منه.
وتفيد هذه المعطيات بأن التحول (الذي تم أو الذي في طريقة
للنجاح أو الفشل، أو الذي لم يأخذ مداهُ بعد) ماضٍ نحو بناء
دول ديمقراطية تعددية تنهي حالة الاستبداد وتبدأ برفع الظلم
وتؤسس لمكافحة الفساد واجتثاثه، وهو ما يجعل تحقق التحول
الديمقراطي في العالم العربي مسألة وقت، لذلك فإنه قد يكون من
مصلحة النخب السياسية الحاكمة إبداء الجدية بالانخراط فيها قبل
أن يحرموا من حتى المشاركة في العملية السياسية في حال نجاح
هذه الحركات، كما هو الحال في توجهات قطاعات مهمة في مصرما بعد
الثورة إزاء عناصر الحزب الوطني الحاكم سابقاً.
ومن المهم في هذه المرحلة بأن ندرك أن لهذا التحول الديمقراطي
الجاري والمتوقع دلالات سياسية واجتماعية أساسية سوف تؤثر في
تشكيل المشهد السياسي في مختلف الدول العربية قطرياً وقومياً،
بل ستؤثر في طبيعة العلاقات الاقليمية والدولية للعرب.
ويُعتقد أن من أهم هذه الدلالات أن التيار الاسلامي بأشكاله
المختلفة، وخاصة حركات الاسلام السياسي المعتدل (التي تمثلها
الجماعات والأحزاب القريبة من فكر جماعة الإخوان المسلمين)،
حيث تُعد هذه الدلاله مؤشراً استراتيجياً على عمق النفوذ
الاجتماعي للتيار الإسلامي من جهة وعلى ديناميكيته السياسية من
جهة ثانية، وعلى عجز القوى السياسية الأخرى سواء التقليدية أو
الحديثة, أن تتقدم عليه من جهة ثالثة، وهو ما يفرض واقعاً
جديداً يقوم على قاعدة الشراكة مع التيار الإسلامي لنقل البلاد
من حالة الثورة والتحول إلى حالة الاستقرار والتنمية وفقاً
للمصالح العليا للدولة قطرياً وقومياً، ووفق تحالفات متفق على
برنامجها كقاسم مشترك.
من جهة أخرى فإن عجز الأنظمة الاستبدادية عن تشكيل مشروع
اجتماعي حامل لسياساتها قد تأكد لدى المراقبين، خاصة وأن سقوط
بعضها لم يستغرق أكثر من أسبوعين, وهو ما يُشير الى أن استقرار
الأنظمة العربية الحاكمة ما قبل الثورات كان استقراراً خادعاً
وغير حقيقي, وهو ما يفرض على الدول التي تشهد احتمالات للتحول
أن تُسارع إلى التفاهم والتعاون مع التيار الاجتماعي الرئيسي
والتيارات الأخرى لنقل البلاد سلمياً وطوعاً وفق برنامج مشترك
نحو التحول الديمقراطي الحقيقي الذي يحمله المجتمع والقوى
السياسية فيه بالتعاون مع النخب السياسية الحاكمة.
وتؤكد مُعطيات هذا التحول الديمقراطي في العالم العربي أيضأً
قدرة المشروع الإسلامي والعروبي على التغيير الاجتماعي بل
ونجاحه، وذلك عندما أسس فلسفة النضال والكفاح ضد الأنظمة
الاستبدادية وتحَّمل تبعاتها الأمنية والاجتماعية والسياسية
على مدى عقود، بينما لم تتمكن المشاريع الاجتماعية الأخرى،
وعلى الأخص ما سُمي منها بالليبرالية، أن تُؤسس لأي حراك
اجتماعي مؤثر, بل تشكّل عنها الانطباع بأنها لصيقة بالنظام
المستبد وداعمة له وعلى علاقة "غير وطنية" بالأجنبي، سواء
تمثلت هذه المشاريع الليبرالية في البرنامج الاقتصادي أو في
المشهد السياسي أو حتى في حال تمكنت من اختراق المجتمع المدني
الممول من الخارج.
وخلاصة القول أن التحول الديمقراطي الذي بدت جهود تحقيقه
وبواكيره في بعض الأقطار قبل عقدين من الزمان، إنما قد أسس
لهذا التحول السريع والشامل الذي شهده العام 2011في العالم
العربي، ولذلك فإن مختلف المعطيات والأبعاد التي تمت الإشارة
إليها في التحليل تؤكد أن المسار العام للتحول في البلاد
العربية يتجه بالفعل نحو بناء دولة ديمقراطية تعددية يُعاد
فيها الاعتبار للشريعة الإسلامية التي تُمثل هوية وحضارة
البلاد العربية، والتي هي بذاتها تحمي حقوق أتباع الديانات
الأخرى أكثر مما ورد في مواثيق حقوق الإنسان الحديثة, وهو ما
سيؤسس لشراكات حقيقية بين التيار الإسلامي ومختلف التيارات
السياسية في المجتمع لحشد الجهود والخبرات والثروات في عملية
بناء متكامل للدولة العربية قُطرياً وقومياً، وبالتالي العمل
على تأهيل العالم العربي ليكون عاملاً فاعلاً في رسم سياسات
النظام الدولي تجاه الشرق الأوسط، وعلى الأخص في الجوانب
الاقتصادية والثقافية وفيما يتعلق بالصراع العربي-
الإسرائيلي.أ.هـ