تسارعت وتيرة الحراك السياسي والأمني في المنطقة قبيل اكتمال عام على
استلام الرئيس باراك أوباما لمنصبه، حيث سبق هذا الحراك متعدد المستويات
تقييمات سلبية لسياسات الرئيس أوباما في أنحاء العالم، بما في ذلك الفشل في
سياساته الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويتوافق هذا الحراك مع
انسدادات حرجة في عدد من الملفات الساخنة في المنطقة، وعلى رأسها ملف
الصراع العربي- الإسرائيلي، وعملية السلام والملف النووي الإيراني
والمصالحة الفلسطينية وبرامج التنمية الاقتصادية والسياسية في الوطن
العربي.
تشير القراءة المنهجية لحجم ونوع المتغيرات في العام 2009 إلى تزايد قدرة
وقوة المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان، وتشير كذلك إلى تزايد
في هشاشة النظام السياسي العربي، وفشله الاقتصادي والاجتماعي المتواصل، وفي
نفس الوقت تشير إلى تصاعد قوة ونفوذ اليمين الصهيوني المتطرف في الكيان
الإسرائيلي حتى سيطر على الحكومة في الربع الثاني من العام 2009.
المعلومات الأولية تشير إلى تزايد الأخطار الصهيونية على مجمل المنطقة بما
في ذلك منطقة الخليج العربي والعراق، إضافة إلى كل من فلسطين ولبنان، حيث
مثلت التصريحات واللهجة الصهيونية المتعالية على العرب إطارا ناظما لسياسات
الكيان الإسرائيلي في المرحلة القادمة، وعلى الأخص الخطاب الأول لرئيس
الوزراء بنيامين نتنياهو الذي أغلق فيه أفق التسوية السياسية حول كل قضايا
الحل النهائي كما يسمونها، واتهم العرب وإيران بكل الاتهامات المتطرفة،
وكذلك تصريحات وزير خارجيته إفيغدور ليبرمان اللاحقة التي كانت أكثر تطرفا
وإساءة واستخفافا.
وقد قرأت النخب العربية هذه الأفكار والتوجهات بوصفها خطرا على الاستقرار
والأمن في المنطقة العربية، سواء على صعيد الاختراق الأمني المتنامي من قبل
جهاز الموساد في الدول العربية (وآخرها اغتيال قيادي في حماس في مدينة
دبي)، أو على صعيد التهديد باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين
واللبنانيين والإيرانيين والسوريين على حد سواء، بل ومحاولات بناء قواعد
عسكرية برية على سواحل البحر الأحمر خاصة في أرتريا وإثيوبيا.
وعلى صعيد آخر تتنامى قوة إيران العسكرية على مستوى الأسلحة التقليدية بشكل
ملحوظ، كما نجحت في نيل عضوية النادي النووي العالمي بنفس الوقت الذي تحاول
إيران أن تمدد نفوذها في المنطقة العربية، وعلى الأخص في كل من العراق
واليمن، إضافة إلى علاقاتها القوية مع كل من سوريا والمقاومة اللبنانية
والفلسطينية، وهو ما يشير إلى السعي الإيراني المتواصل للعب دور القوة
الإقليمية العظمى حسب تصريحات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد مؤخرا، وهو ما
شكل مصدرا للقلق لدى الأوساط العربية الرسمية منها والشعبية، وخاصة في
منطقة الخليج العربي واليمن حول نوايا إيران المستقبلية تجاه المصالح
العربية والأمن العربي.
وشهدت المنطقة تحولا في نوعية ومضمون الحراك التركي السياسي والاقتصادي
الذي انطلق في ظل سياسة معلنة للعب دور إقليمي رئيس، إضافة إلى الاستدعاء
العربي والفلسطيني لهذا الدور في أكثر من محطة، ما أعطى فرصة لتركيا لتكون
طرفا مهما في بلورة مستقبل الشرق الأوسط والمنطقة العربية والصراع العربي-
الإسرائيلي، خاصة أن نخبا عربية واسعة تنظر إلى فرصة تحالف عربي- تركي
لتحقيق أهداف ثلاثة مجتمعة:
·
الحد من نفوذ إيران وتنامي أطماعها.
·
الحد من عدوانية إسرائيل ونفوذها وتفردها في الهيمنة على المنطقة.
·
دعم التنمية الاقتصادية العربية نظرا لما يتمتع به الاقتصاد التركي من قوة
ونجاح.
وعلى صعيد الصراع العربي- الإسرائيلي فقد تراجع الموقف العربي كثيرا أمام
التطرف الإسرائيلي من جهة وفي ظل الضغوط الأمريكية المتواصلة حتى يكاد
يتحلل من مسؤوليته العربية بل والأخلاقية عن الوقوف إلى جانب الشعب
الفلسطيني من جهة أخرى، واستغل بعض العرب الخلاف الفلسطيني الحاد شمَّاعة
لتبرير مواقفه تلك، ومال البعض منهم إلى الاصطفاف مع طرف فلسطيني يوافقه
إزاء عملية السلام ضد طرف آخر، مما جعل الموقف العربي في المحصلة غير داعم
للقضية الفلسطينية.
ومن المهم أن نشير في رسم مشهد الحراك إلى التراجع الكبير والفشل في برامج
التنمية العربية التي تبررها الحكومات تارة بمسؤوليات الصراع العربي-
الإسرائيلي ومتطلباته وتداعياته، وتحملها تارة أخرى لأعمال العنف الداخلي
التي تقوم بها بعض المجموعات داخل بعض الأقطار العربية، لكن وعي النخب
العربية السياسية والاقتصادية تجاوز مثل هذه التبريرات ويعبر بوضوح عن عدم
قناعته بها، ويعزو هذا الفشل إلى سياسات الحكومات الذاتية او الخارجية
والفساد المالي والإداري المستشري فيها بأشكال مختلفة.
وبناء على ذلك فإن الحراك السياسي والأمني الجاري في الشرق الأوسط اليوم
سواء أخذ طابع التحشيد الأمريكي- الإسرائيلي ضد إيران، أو الضغط السياسي
والأمني على الفلسطينيين لاستئناف المفاوضات العبثية المجرَّبة، أو الضغط
العربي باتجاه إضعاف قوة المقاومة الفلسطينية والعربية، أو فشل سياسات
الحكومات في إحداث النهضة التنموية الشاملة في أقطارها، أو تنامي النفوذ
الإيراني والقدرة على إنشاء حالات من عدم الاستقرار كما هو الحال في كل من
اليمن والعراق على وجه الخصوص، فإن ثمة دلالات استراتيجية يعنيها هذا
الحراك لعام 2010، وأهمها:
1.
استمرار العجز السياسي العربي عن بلورة رؤية مشتركة أو مواقف مشتركة لإحداث
النهضة الحقيقية والتنمية الشاملة.
2.
استمرار عملية السلام في المراوحة في مكانها، وسعي الولايات المتحدة لتدعيم
قواعدها الفاشلة سابقا.
3.
عجز الإدارة الأمريكية الجديدة عن تقديم أي رؤية فكرية أو سياسية أو أمنية
تأخذ بالاعتبار مصالح الأمة وشعوب المنطقة.
4.
تحقق نظرية الفراغ القيادي في المنطقة العربية مما يفتح الفرصة لملئها من
قبل أطراف أخرى، سواء كانت إقليمية إسلامية وصديقة كإيران وتركيا، أو
معادية كإسرائيل.
5.
تواصل ضعف القراءة التحليلية للمتغيرات الإقليمية والدولية من قبل قيادة
السلطة الفلسطينية (حركة فتح)، ما يجعلها عاجزة عن قيادة المشروع الوطني
الفلسطيني وتشجيع المصالحة الداخلية بالتعاون مع القوى الرئيسة وعلى رأسها
حماس، بعيدا عن إملاءات الاحتلال والاستجابات للضغوط الأمريكية.
في مقابل ذلك فإن التطلعات النخبوية والشعبية في المنطقة أصبحت تنظر إلى
نموذج المقاومة اللبنانية والفلسطينية، التي هزمت إسرائيل عسكريا، بوصفها
خيارا واقعيا يحقق الأهداف ويحمي مصالح الأمة، ويحجّم غطرسة القوة
الصهيونية، ويؤسس لمرحلة تحرير ودحر للاحتلال ممكنة التحقق على المديين
المتوسط والبعيد.
ويعمل هذا الحراك، في بعديه السياسي والأمني، ليشكل واقع المنطقة والأمة
وفق عدد من السيناريوهات مع نهاية عام 2010، وأهمها:
1.
تنامي القوة العسكرية الإيرانية والاعتراف الدولي بها لتصبح إيران شريكا في
رسم مستقبل المنطقة على الصعيد الدولي، حيث تصبح المواقف العربية ضدها دون
جدوى.
2.
نجاح مشروع دايتون في الضفة الغربية والمشروع الأمريكي الجديد تجاه عملية
السلام، واستمرار الضغط العربي على حركة حماس في كسر شوكة المقاومة
الفلسطينية، ما يتيح الفرصة للمشروع الصهيوني لتحقيق قفزة نوعية على حساب
المصالح العربية العليا وحقوق الشعب الفلسطيني، خاصة فيما يتعلق بالتطبيع
العربي والإسلامي الرسمي معه، أو تزايد الدعم الأمريكي متعدد المستويات.
3.
تفاقم الأزمة الإيرانية- الأمريكية الإسرائيلية إلى حد الصدام المسلح
واستخدام القواعد الغربية في الخليج العربي وفي دوله، ما قد يدفع المنطقة
نحو تناحر داخلي واستنزاف للموارد، كما حصل في حروب الخليج السابقة منذ عام
1982، وهو ما يزيد من ضعف الأمة العربية، ويوفر الفرصة لسيادة الخيارات
الإسرائيلية في المنطقة.
4.
في حال غامرت إسرائيل باحتلال قطاع غزة أو مهاجمة سوريا أو المقاومة
اللبنانية وفشلت في تحقيق أهدافها فإن محور المقاومة والممانعة العربي-
الإسلامي في المنطقة سيتمكن من فرض رؤيته وبرنامجه خيارا استراتيجيا للأمة
بمجموعها.
وختاما، فإن هذا الحراك وفق هذه القراءة يحمل في طياته مخاطر جمة، كما يشكل
فرصا للقوه الحية في الأمة لتحقيق تحول مهم في المنطقة على طريق تحقيق
المصالح العليا للأمة، خصوصا ما يتعلق باسترجاع الحقوق المغتصبة، وتحقيق
الأمن والاستقرار، وتقليل مصادر التهديد الخارجي، وتشكيل قوة لها وزنها على
المستوى الدولي.