تعرضت البوصلة السياسية الفلسطينية لغمامات من أجواء الضباب لفترة طويلة، وقد
مثّل تفاقم الانقسام الداخلي على مدى خمسة عشر عاما، وتعرض الأداء السياسي
لهجوم شعبي عارم بعد اقتراح تأجيل التصويت على تقرير غولدستون حول جرائم الحرب
الإسرائيلية في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008/2009م وذلك يوم 3/10/2009م
في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، نقطتي تحول في تحديد اتجاه البوصلة السياسية
الفلسطينية، الأمر الذي فتح ملف السلطة الفلسطينية وأداءها السياسي خصوصا بعد
تردي الأداء التفاوضي وتراجعه لدرجة أن المؤمنين بالتسوية السياسية والتفاوض لم
يعودوا قادرين على لزوم الصمت، وهو ما جعل البوصلة السياسية الفلسطينية تتيه في
أجواء الضباب بين المصالح الشخصية، والعلاقات مع الولايات المتحدة، والتنسيق
الأمني مع الاحتلال، وعدم تحمل نتائج تطبيق التعددية السياسية المفضية أحيانا
إلى فقدان مواقع القرار، كما حصل في انتخابات السلطة لعام 2006م، كما تاهت في
سبل المحافظة على الثوابت والحقوق، وحماية التأييد العربي والإسلامي الشعبي،
وبل والرسمي في بعض الأحيان كما حصل إبان حرب غزة في مؤتمر الدوحة 2009م.
وتجدر الإشارة إلى أنه ومنذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م قد أحاطت بالبوصلة
الفلسطينية الرسمية- وأثرت على الشعبية منها- هالة كبيرة من الضباب، وبرغم
التحولات الكبيرة التي اجتاحت المنطقة والعالم والقضية على مختلف الأصعدة،
وبرغم التجربة المُرة التي عاشها الشعب الفلسطيني في ظل اتفاقات أوسلو على يد
الاحتلال الإسرائيلي، وفي ظل حكم السلطة بقيادة فتح، غير أن إصرار فريق أوسلو
الفلسطيني بقيادة محمود عباس على التمسك باغتصاب قيادة الشعب الفلسطيني من
الناحية القانونية، والاستمرار بالالتزام بخط أوسلو، ورفض نجاحات خط المقاومة
في ضرب الاحتلال، ظل هو سيد الموقف لدى هذا الفريق، وكان كلما تداعى الاتفاق
وتداعت رموزه قامت الولايات المتحدة وبعض الحلفاء وبالتعاون مع الإعلام العالمي
بنفخ الروح فيه من جديد بعملية تنفس صناعي غير حقيقية، وهو ما كشفت عنه يوما ما
مادلين أولبرايت عندما استلمت وزارة الخارجية الأميركية؛ إذ كانت القناعة حينها
تتزايد بانتهاء أو وفاة اتفاق أوسلو في أروقة الخارجية الأميركية، وبالفعل نجحت
بإعادة الروح إليه من جديد بعد ذلك لتستمر معاناة القضية والشعب من نتائجه
الوخيمة.
وبرغم نجاح الشعب الفلسطيني بقيادة انتفاضة عارمة عام 2000م استمرت أكثر من
ثماني سنوات، وبرغم نجاح المقاومة في قطاع غزة بإخراج الاحتلال عام 2005م،
وبرغم نجاح المقاومة في إنزال هزيمة عسكرية وأمنية وأخلاقية ضد العدوان
الإسرائيلي على غزة عام 2008/2009م، غير أن البوصلة الفلسطينية الرسمية استمرت
في التحليق داخل هالة الضباب بعيدا عن المصالح الفلسطينية العليا وبعيدا عن
مطالب الشعب الفلسطيني، ولم تتمكن من تحقيق أي إنجاز يتعلق بحقوق الشعب
الفلسطيني، وظل التمسك بخط التفاوض مع حكومات الاحتلال مهما كانت مواقفها- حتى
لو كانت ضد اتفاق أوسلو- كما فعل كل من أرئيل شارون 2002- 2005م، وإيهود أولمرت
2005- 2009م، وبنيامين نتنياهو 2009-...، وبرغم استمرار الاحتلال في الاعتداء
على الأرض والإنسان والمقدسات في فلسطين بلا رقيب أو حسيب من دول العالم
والنظام الدولي.
في ظل هذه الأجواء الضبابية والبوصلة التائهة تتحرك أوساط وشخصيات وقيادات
فلسطينية لاستئناف ما يسمى بعملية المفاوضات السياسية مع الاحتلال بعيدا عن
المتغيرات والظروف وبعيدا عن الموقف الشعبي الفلسطيني، وبعيدا عن التقييم
الموضوعي لخط التفاوض الفاشل، وتشير أصابع الاتهام إلى مصالح أخرى تقف خلف هذه
المواقف، حيث تتكاثر الاتهامات لاشخاص وجهات ومؤسسات بعينها بخدمة مصالحهم
الشخصية على حساب مصالح الشعب الفلسطيني، وإلا فما معنى التفاوض لأكثر من 229
لقاء والنتيجة صفر سياسيا كما أُعلِن رسميا، وما معنى وضع الشروط التفاوضية ثم
التخلي عنها مرارا وتكرارا، والتي كان آخر فصولها ما حصل بعد استلام بنيامين
نتنياهو للحكم للمرة الثانية في إسرائيل عام 2009م، حيث أعلن في خطاب رسمي
نهاية المفاوضات ونتائجها، وهي تقول لا تفاوض على شيء إلا على كيفية حماية أمن
إسرائيل، وبرغم التصريحات الرنانة لقيادات فلسطينية ضده، غير أن الضغوط
الأميركية ومحاولات إبرام صفقة ومقايضة ظالمة بين تجميد الاستيطان مؤقتا
والتطبيع العربي مع إسرائيل واستئناف المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية نجحت
في كسر الموقف الفلسطيني الذي التقى على إثره محمود عباس ببنيامين نتنياهو
وباراك أوباما لإطلاق عملية التفاوض من جديد بلا شروط في نيويورك في
26/9/2009م، وذلك رغم استمرار تشدد قيادة حركة فتح ومحمود عباس تحديدا في
المقابل بوضع الشروط على المصالحة مع حركة حماس في مفاوضات ماراثونية مضنية!.
وما لبثت السلطة ومنظمة التحرير أن وجهت هذه الطعنة للموقف الفلسطيني وحقوق
الشعب الفلسطيني، حتى تكشفت مواقف أكثر إحراجا وسوءا بطلب السلطة تأجيل التصويت
على تقرير القاضي غولدستون في مجلس حقوق الإنسان الدولي لستة أشهر، والذي كان
يفترض به أن يطالب محكمة الجنايات الدولية بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة، في
خطوة قيل إنها تمت بدوافع شخصية وحزبية وربما بابتزاز صهيوني أميركي متعدد
الأنواع، ولكنها في النهاية لقيت رفضا كاملا وطنيا وعربيا ودوليا، حيث تكاثرت
مطالب إقالة هذه القيادة من الرئيس وفريقه، خصوصا أنها تسببت بشرخ كبير في
طبيعة التحالف الذي تم تشكيله دوليا ضد إسرائيل في حرب غزة.
وقد كان أكثر المتضررين من موقف السلطة والمنظمة الجديد على الصعيد السياسي
جهود المصالحة التي تبذلها مصر، والتي قيل إن الطرفين اتفقا إلى حد كبير فيها
على معظم ما ورد في الورقة المصرية، وإنهما كانا يستعدان للتوقيع على مشروعها
في أواخر شهر أكتوبر/ تشرين أول 2009م، حيث اتخذت منظمات فلسطينية وعلى رأسها
حركة حماس موقفا مغايرا تجاه قيادة فتح ورئاسة السلطة يقضي بأنه "لم يعد هناك
فريق وطني حقيقي يمكن توقيع اتفاق مصالحة معه"، في خطوة لقيت دعما شعبيا غير
مسبوق رغم جراح الانقسام القائم فلسطينيا، وهو ما يؤكد حجم التيه والضياع الذي
أوصل الفريق الحاكم في السلطة في رام الله وقيادة منظمة التحرير القضية
الفلسطينية إليه.
ورغم إنجاز حركة حماس لصفقة رمزية شديدة الأهمية بالإفراج عن عشرين أسيرة
فلسطينية مقابل دقيقتي فيديو للجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط كمقدمة
لصفقة التبادل الأكبر المفترضة غير إن موقف السلطة كان كذلك مدعاة للشك
والتشكيك؛ إذ منعت نواب حركة حماس في المجلس التشريعي من المشاركة في حفل
استقبال الأسيرات في الضفة، في الوقت الذي سجلت فيه حركة حماس نقطة سياسية
وشعبية مهمة بنجاحها الجزئي والرمزي في إطلاق سراح الأسرى لأول مرة، وهو ما وفر
فرصا جديدة للمقارنة بين نهجين أوسلوي ومقاوم في صفوف الشعب الفلسطيني.
وأكملت السلطة وقيادتها المشهد بموقف متواضع سياسيا، شمل منع المظاهرات
والمسيرات الشعبية انتصارا للأقصى والقدس في ظل محاولات الهدم والاقتحام
الصهيونية المتواصلة إلا من بعضها المتواضع وبقيادة حركة فتح، وبرغم النداءات
العالمية للهبة الجماهيرة غير أن إعلام السلطة ومنظمة التحرير وقياداتها لم
تُعِرِ الأمر أهمية، بل قامت بإجراءات لمنع تفاقم أي حراك جماهيري في الضفة
الغربية إزاء الأمر خوفا من اندلاع انتفاضة ثالثة على الاحتلال قد تطيح بالسلطة
أيضا.
وبذلك يمكن القول بأن البوصلة الفلسطينية الرسمية بقيادة محمود عباس لمنظمة
التحرير ولحركة فتح ومن ثم للسلطة الفلسطينية، وبرغم الدعم الهائل الذي يلقاه
من النظام الدولي، غير أن هذه البوصلة تعاني من تيه كبير ومن انحراف الاتجاه
بسبب حجم الغمامات والضباب الذي يحيط بها، وبسبب تداخل الخاص بالعام والمصالح
الشخصية بمصالح الوطن، وهو ما أصبح يشكل نظريات وسياسات عمل لا تمت بصلة لأصل
القضية وحقوق الشعب الاساسية، حين يكون حق العودة والقدس وإنهاء الاحتلال،
وغيرها، أمرا خلافيا، حيث طغت مقاييس وموازين أخرى، غير الدوافع الوطنية
والمصالح العليا، على القرار الفلسطيني الرسمي، ما يجعل المطالبة بإعادة تغيير
الميزان القيادي بما فيها الاستقالات أو التنحي من قبل القيادات التي أوصلت
القضية إلى هذا الواقع الأليم مطالب مشروعة ومعقولة ومنطقية ووقعية.
وإن تحول مواقف الشخصيات والفصائل والشعب الفلسطيني من هذا النهج الفاشل يمكن
أن يؤتي أكله في حال تحولت إلى عمل مؤسسي، وفي حال لم تقدم بعض الدول العربية
وإسرائيل وأميركا حبل النجاة لهذه القيادات، وفي حال عدم إنقاذها من قبل حركة
حماس بتوقيع اتفاق مصالحة معها لا يلبث أن يلقى مصير سابقاته من الاتفاقات منذ
عام 2003م وحتى اليوم، فهل تتمكن القوى والفصائل والنخبة الفلسطينية والعربية
المعنية بإنقاذ القضية من بلورة تصورات وآليات تحقق التماسك الأكبر للموقف
الفلسطيني وتعزل هذه التيارات واتجاهاتها وتزيل أجواء الضباب وغماماتها عن
اتجاه البوصلة الفلسطينية التي يجب أن تبقى تستهدف إنهاء الاحتلال وإحقاق
الحقوق الفلسطينية والعربية كاملة في فلسطين؟!