تورطت إسرائيل في جريمتها ضد نشطاء الحرية في عرض البحر المتوسط يوم الاحد
31/5/2010، فقد كشفت العملية العسكرية الإسرائيلية ضد أسطول الحرية- الذي
يحمل مساعدات إلى سكان قطاع غزة- عن عمق الأزمة النفسية والاستراتيجية التي
تعيشها إسرائيل، فقد أخطأت القيادة الإسرائيلية حسابات ردود فعل النشطاء
على ظهر السفينة، كما أخطأت ردود الفعل الدولية على استخدامها للأسلحة
النارية، كما أخطأت تقدير رد الفعل التركي الذي تنتمي إليه السفينة التي
هاجمتها القوات الإسرائيلية وكثير من ركابها من حملة الجنسية التركية،
وأخطأت إسرائيل عندما تبنى رئيس وزرائها كامل العلمية ونتائجها دون أن يقدم
للعالم مجرد اعتذار أو أسف على القتلى والجرحى، وبذلك وقعت إسرائيل في شر
أعمالها هذه المرة، ويبدو أنها لن تخرج منها إلا بخسائر إعلامية وقانونية
وسياسية وربما استراتيجية كبيرة.
تورطت إسرائيل مع دولة إقليمية عظمى هي تركيا، دولة ليست بحاجة إلى
إسرائيل، بينما إسرائيل بحاجة ماسة لها على مختلف الصعد، وتورطت مع دولة
ليست بحاجة إلى الولايات المتحدة وتستطيع أن تقول لها لا، كما قالت لها عند
الحرب على العراق عام 2003، بل إن الولايات المتحدة بحاجة ماسة لها، فهي
دولة عضو في حلف النيتو، وتملك اقتصادا كبيرا، وتملك قيادة سياسية موحدة
وتكاد تتطابق مع الجيش بخصوص الدور والمصالح والكرامة التركية في المنطقة،
دولة تلعب دورا مهما واستراتيجيا في بناء شرق أوسط قوي ومتميز وهي عضو في
المجموعة الأوروبية، دولة تعد من الدول القائدة في العالم الإسلامي وربما
الأكثر أهمية لدى الغرب وإسرائيل.
رد الفعل التركي كان قويا ومباشرا ومفاجئا لإسرائيل، حيث قررت قيادة الجيش
التركي إلغاء ثلاث مناورات مقررة سابقا مع الجيش الاسرائيلي، وقررت تركيا
دعوة مجلس الأمن الدولي للانعقاد فورا لإدانة إسرائيل، وقرر رئيس وزرائها
قطع زيارته إلى أمريكا اللاتينية ليهاجم إسرائيل من مطار تشيلي ويعتبرها
دولة خارجة عن القانون، وعاد إلى تركيا ليوجه للعالم ولإسرائيل خطابا أقل
ما يقال عنه إنه مفاجئ لإسرائيل، التي لا تزال تحاول أن ترمم علاقاتها
المترنحة مع تركيا، والتي تكسرت أو شرخت خلال أقل من عامين مرات عدة.
لذلك فإن إسرائيل اليوم في ورطة حقيقية مع تركيا ومع العالم، فتركيا تسعى
لتدويل الجريمة الإسرائيلية ولا تقبل معالجتها ثنائيا، ويبدو أن تركيا تسعى
إلى اعتذار إسرائيل عن الجريمة، وتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، والإفراج
عن كل الموقوفين في إسرائيل من ركاب الأسطول، وتحمل تركيا في هذه الأثناء
الملف الفلسطيني وعنوانه فك الحصار عن قطاع غزة والوقوف مع الشعب
الفلسطيني، كما تسعى إلى إلزام إسرائيل بالشرعية الدولية والقانون الدولي،
ومحاكمة المسئولين عن الجريمة دوليا في حال لم تمتثل إسرائيل إلى الشرعية
الدولية، وزادت هذه الجريمة من التقارب بين الموقفين السياسي والعسكري
التركي إزاء القضية الفلسطينية، خاصة إذا ما علمنا أن خطاب رجب أردوغان
رئيس وزراء تركيا يوم الاثنين 1/6/2010 قد تمت مراجعته من قبل رئاسة أركان
الجيش التركي مع السيد أردوغان، وهو الذي عبر بغضب شديد وقوي وجاد عن سخط
وموقف تركيا، وفي الأثناء كان وزير خارجيته يناقش الأميركيين ويطالبهم بذات
المطالب، حيث يعتقد أن الولايات المتحدة تأخذ المطالب التركية على محمل
الجد في ضوء التجارب الماضية منذ استلم حزب العدالة الحكم فيها، خاصة وهو
يمسك اليوم بمقاليد السلطة كلها بكل مؤسساتها، ويكاد يطوع مؤسسة الجيش لذات
السياسات.
ولذلك فإن ورطة إسرائيل على صعيد حقوق الإنسان، والقانون الدولي، وإرباكها
لعملية السلام والمفاوضات الجارية في المنطقة، والتسبب بإشعال الغضب
الجماهيري ضدها من جديد، وتفاعل ملف رفع الحصار عن غزة ودعم الشعب
الفلسطيني والحديث عن معاناته إنما يسبب إرباكا وإحراجا للسياسة الأميركية
ذاتها، ورغم ما بدا من تماسك أولي لموقف الحكومة الإسرائيلية والإدارة
الأميركية غير أن التفاعل العربي والإسلامي والدولي قد يقود إلى تعديل
جوهري في هذه المواقف والسياسات، خاصة إذا ما علمنا أن أردوغان وضع نفسه
وحزبه في اختبار استراتيجي على صعيد الشعب التركي الذي يقف خلف موقفه ضد
إسرائيل بكل فئاته في البرلمان والجيش، وذلك في ظل اقتراب موعد الاستفتاء
على التعديلات الدستورية التي قدمها حزب العدالة للبرلمان في سبتمبر/
أيلول2010 القادم، ولذلك فهو لا يتحمل التراجع أو الانكسار، الأمر الذي
ربما تدركه الإدارة الأميركية.
من ناحية أخرى فإن ورطة إسرائيل هذه المرة هي من النوع المتدحرج، فقد بدأ
ماراثون تبادل الاتهامات بتحمل المسئولية داخليا، والذي قد يقود إلى إقالات
أو استقالات مهمة، وربما يتسبب بخلافات سياسية في حال تدخلت الولايات
المتحدة بمبادرات لتفكيك الأزمة ونزع فتيلها حرصا على إسرائيل الأمر الذي
قد يتطلب تنازلات إسرائيلية الأمر الذي قد يطيح بحكومتها، ما يعني أن
الورطة كما هي لكل إسرائيل خارجيا فهي لحكومتها القائمة بزعامة نتنياهو في
الداخل الإسرائيلي، وبذلك تصبح الورطة الإسرائيلية مركبة ومعقدة، وربما
تتسبب بتعديل نسبي في الوضع السياسي القائم في المنطقة خاصة إزاء الحصار
على غزة.
من جهة أخرى فإن إسرائيل لا تزال تعاني من جرحها النازف فيما يتعلق بارتكاب
جرائم حرب في حربها على غزة 2008/2009 وهجماتها السابقة عليها، وتلاحق
قضايا جنائية قادتها في عدد من الدول الغربية، وهي بالتالي ليست بحاجة إلى
جرح أعمق وملاحقات جديدة، وأما على الصعيد الإعلامي فقد تراجعت صورة
إسرائيل الديمقراطية- التي تلتزم بحقوق الإنسان- مرات عدة منذ أربع سنوات
وحتى اليوم، ولكن التراجع هذه المرة يتمتع بقدرة دينامية إقليمية ودولية لا
تملك إسرائيل محاصرتها إلا بثمن مهم، بسبب تبني تركيا لمواجهة إسرائيل
إعلاميا ودوليا، خاصة أنها ومنذ اللحظة الأولى كذبت الرواية الإسرائيلية
والمبررات الإسرائيلية بشكل حاسم وشامل.
ولذلك، فلئن نجحت إسرائيل بمنع الأسطول من الوصول إلى ميناء غزة وتقديم
المساعدات المحمولة غير أنها خسرت إعلاميا وسياسيا وربما استراتيجيا أكثر
بكثير مما تخيل قادتها أو حسبت، وبالمقابل فلئن لم تتلق غزة المساعدات
المحمولة للسكان غير أنها كسبت تأييدا دوليا منقطع النظير، وتسببت العملية
الإسرائيلية بفتح ملف الحصار الظالم وغير الإنساني على قطاع غزة بطريقة
أكثر جدية من ذي قبل، وبرغم تحفظ الولايات المتحدة وتزمت الموقف الإسرائيلي
إزاء الحادث والحصار غير أن التطورات قد تصل إلى درجة تخفيف الحصار وربما
تفكيكه بشكل أو بآخر خلال الأشهر القادمة، ومن ناحية ثانية فقد شاهد العالم
ما قامت به إسرائيل وما قدمت من روايات ضعيفة وكاذبة نفاها المتضامنون
والحكومة التركية، ولذلك أصبح العالم أكثر تهيئا لتصديق الرواية الفلسطينية
عن جرائم إسرائيل وسياساتها العدوانية، وهي فرصة ذهبية للدول العربية
وللسلطة الفلسطينية للعمل على عزل إسرائيل إعلاميا وسياسيا في حال دعمت هذه
الأطراف الموقف التركي وهو ما لم تظهر له أي مؤشرات حتى كتابة هذه المقالة.
وعلى الصعيد القانوني يبدو أن الفرصة أصبحت مواتية أكثر من ذي قبل لتقديم
شكوى ضد قادة إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية
بتهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، كما يمكن بدء الحديث الجاد
عن عدم التزام إسرائيل بالشرعية الدولية في التعامل مع السفينة عسكريا
وبعملية قرصنة في المياه الدولية، واعتدائها على الجرحى وتقييدهم والتحقيق
معهم، وبأن سلوكها ضد الفلسطينيين هو من ذات النوع، كما قد يفتح الأمر
ملفها النووي في ظل رفضها للتوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية
والعالم كله يريد أن يعاقب دولا إسلامية- رغم أنها عضو بالمعاهدة- بحجة أن
تقاريرها لا تروق للوكالة الدولية للطاقة، لقد فتحت الجريمة التي قامت بها
إسرائيل ضد أسطول الحرية عش الدبابير على إسرائيل ... فهل نرى استثمارا
عربيا وفلسطينيا مخلصا وجادا لهذا المأزق الإسرائيلي، أم نرى موقفا وسياسة
عربية وفلسطينية تحمي إسرائيل وتنزع فتائل النار التي تحرق أصابع إسرائيل
كما حصل سابقا في تقرير جولدستون، وملف مخيم جنين، وغيره؟