توثقت علاقات الولايات المتحدة بإسرائيل منذ إنشائها، ولكنها شهدت تحولات
وتطورات نوعية استراتيجية في العلاقة منذ توقيع الاتفاقية الاستراتيجية
بإنشاء تحالف استراتيجي بين الطرفين عام 1980، وتشير المعلومات المختلفة
إلى أن الولايات المتحدة تقدم لإسرائيل دعما خاصا لا تحظى به أي دولة في
العالم، ويتمثل هذا الدعم بالغطاء السياسي والقانوني الكامل لكل السلوك
الإسرائيلي فيما يتعلق بخرق القانون الدولي، وإهمال قرارات الأمم المتحدة
وتجاهلها، ومنع مجلس الأمن الدولي وأي مؤسسة في الأمم المتحدة من اتخاذ أي
إجراء ضد إسرائيل ولأي سبب، وكذلك توفيره الحماية السياسية لها، بل ودعمها
سياسيا في علاقاتها الخارجية مع الدول الغربية وغيرها.
وعلى الصعيد الاقتصادي يكفي أن نذكر في هذه المقالة أن الولايات المتحدة
تقدم دعما مباشرا لإسرائيل يقدر بـ 3 مليارات دولار، وتوفر لها ضمانات قروض
بحوالي 10 مليارات دولار أخرى سنويا أيضا، كما تسمح الولايات المتحدة،
وبتشجيع من اللوبي الصهيوني فيها، بتوفير حوالي 14 مليار دولار دعما
صهيونيا غير حكومي مباشر لإسرائيل من الولايات المتحدة وحدها، وتوفر لها
كذلك الكثير من أسرار التكنولوجيا والتجارة الحرة، وهي الدولة الأولى
بالرعاية في التجارة العامة، كما توفر لها دعما عسكريا منقطع النظير
لإبقائها متفوقة في كل المجالات على كل دول العالم الإسلامي وعلى الدول
العربية مجتمعة، بما في ذلك توفير غطاء سياسي لحماية برنامجها النووي
العسكري المشهور.
وبذلك فقد احتلت إسرائيل في السياسة الخارجية الأمريكية مكانة الحليف
الاستراتيجي الأهم في العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وهي تحظى
بمزايا من هذا المستوى، واعتبرت مصلحة أمريكية حيوية، كما اعتبر محيطها
محيطا حيويا في رسم السياسة الخارجية الأمريكية، وشكل محددا مهما لأي
تحولات فيها، ويمكن أن يعزى هذا الترابط والتصاعد في العلاقات الاستراتيجية
بين الجانبين إلى عوامل أساسية ثلاثة:
·
قوة ونفوذ اللوبي اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة، وتزايد دوره
وتأثيره في السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، وعلى الأخص فيما يتعلق
بتسخير أدواته لخدمة الحملات الانتخابية لأي من المرشحين للرئاسة أو
الكونغرس، ما يجعل اتجاهات هذا اللوبي وتوجهاته ومطالبه محدِّداً لسياسة
عدد كبير من المشَرِّعين الأمريكيين ومسؤولي البيت الأبيض وتوجهاتهم
وبرامجهم، ويشكل حماية مهمة لدعم التحالف الاستراتيجي الأمريكي-الإسرائيلي.
·
تزايد أهمية إسرائيل العسكرية والسياسية كأدة أمريكية عند اللزوم بدرجة
حاملات طائرات عملاقة، جاهزة لخدمة الأهداف والسياسات الأمريكية في الشرق
الأوسط، بل وفي دول العالم الأخرى، وعلى الأخص فيما يتعلق بتجارة السلاح
وتحقيق مناطق النفوذ في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
·
نظرا لطبيعة السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي والعربي على قاعدة
الهيمنة والاستعمار والتحكم بالثروات والقرار السياسي، وبوصفها مناطق
استهلاكية لسلع الدول الصناعية، والسعي لمنع تشكل أي وحدة أو قوة منفردة
إسلامية أو عربية يمكن أن تشكل قوة إقليمية عظمى تتحدى الإرادة الأمريكية،
فإن طبيعة العدوانية الإسرائيلية والعنف والإرهاب والحروب في مواجهة العرب
والفلسطينيين، واستمرار تهديد استقرار المنطقة، يجعل العلاقات الأمريكية-
الإسرائيلية فيما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي على وجه التحديد
متطابقة، على الصعيد الاستراتيجي، لتحالف ثنائي ضد عدو مشترك بصرف النظر عن
تطابق التعريف التفصيلي، ولكن على الأقل بوصفه مصدر تهديد لمصالحهما.
وقد لعبت هذه العوامل، وما تزال، دورا بالغا في تشكيل طبيعة العلاقات
بينهما، وفي تشكيل آليات ووسائل مواجهة الأزمات أو الخلافات كذلك، كما
اعتبرت إطارا ناظما لبرامج تطوير هذه العلاقات لدرجة التداخل الكامل بينهما
من حيث الإمكانات والمصالح والبرامج.
وبالطبع، فقد شهدت هذه العلاقات أزمات ثقة عديدة على مدى عقود خلت، ولكن
حلها كان دوما على قاعدة الصداقة والتحالف، حتى لو اتخذ أحدهما إجراء
حادّا، حيث يتم احتواؤه من قبل الآخر لتستمر العلاقات الاستراتيجية، ومن
بين المحطات المهة في تأكيد هذا المؤشر الاستراتيجي للعلاقة:
·
اكتشاف الولايات المتحدة عمليات تجسس حقيقية من قبل إسرائيل على
التكنولوجيا العسكرية والنووية الأمريكية الخاصة بها، فيما عرف بقضية
"جوناثان بولارد" الذي ما زال يقضي حكما لمدى الحياة في السجون الأمريكية،
إذ كان تأثير هذه الحادثة متواضعا، وإن شابَ علاقاتِهما توترٌ محدود مؤقت
انتهى بالحكم على الجاسوس بولارد بالسجن.
·
قيام المدفعية الإسرائيلية بإسقاط طائرة هليوكبتر أمريكية تُقِلُّ ضباطا
أميركيين في طريقهم لترتيب فصل القوات الفلسطينية عن الإسرائيلية في بيروت
عام 1982، واكتفت الولايات المتحدة باعتذار علني قدمه لها رئيس وزراء
إسرائيل مناحيم بيغن بهذا الخصوص.
·
الخلاف الذي حصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل فيما يتعلق بحرب الجبل في
لبنان عام 1983، حيث تولت القوات الأمريكية في الأسطول السادس في البحر
المتوسط دعم طرف لبناني ضد الطرف اللبناني الذي تدعمه القوات العسكرية
الإسرائيلية، والذي تمحور فيه الخلاف على مشروع إقامة كانتونات طائفية في
لبنان كانت إسرائيل تتجه لتشكيلها، فيما كانت ترى الولايات المتحدة الإبقاء
على لبنان واحدا، للمسيحيين فيه نفوذ وحماية كبيرة واسعة، وانتصرت في هذه
الأزمة السياسةُ الأمريكية على الإسرائيلية.
·
الخلاف السياسي الحاد الذي نشب بين إسرائيل بزعامة إسحاق شامير والولايات
المتحدة بزعامة جورج بوش الأب عام 1991 فيما يتعلق بانعقاد المؤتمر الدولي
للسلام في مدريد، حيث هدد وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر الجانبَ
الإسرائيلي إن لم يستجب للطرح الأمريكي، وبتدخل كبير من اللوبي الصهيويني
وبالتزام أمريكي بشروط إسرائيل لحضور المؤتمر وبرسالة ضمانات أمريكية تحمي
إسرائيل من الاضطرار لتقديم تنازلات رئيسة، استجابت حكومة شامير للضغط
الأمريكي، وانتهت الأزمة بينهما في الإطار الاستراتيجي.
·
الخلاف الأمريكي- الإسرائيلي بشأن خريطة الطريق للسلام في الشرق الأوسط عام
2004، حيث اشترطت إسرائيل لتنفيذها 14 شرطا قبلتها الولايات المتحدة،
واعتبرت هذا الموقف قبولا للخطة، حيث تم تجاوز الأزمة ليبدأ الضغط الدولي
المشترك على الجانب الفلسطيني لتنفيذ التزاماته فيها دون الضغط على الجانب
الإسرائيلي.
·
تفاقم أزمة الرؤية بين الجانبين بخصوص الدولة الفلسطينية المستقلة التي
أعلن الرئيس جورج بوش الابن عن قناعته بأنها تحقق الأمن لإسرائيل، فيما عرف
بفكرة حل الدولتين عام 2006، حيث قدمت الحكومات الإسرائيلية في عهود كل من
شارون وأولمرت ونتنياهو تعريفات تفصيلية تُفقد الفكرة أهميتها، وذلك بهدف
عدم الصدام مع الولايات المتحدة، وتم تجاوز الخلاف بشكل نهائي.
·
الأزمة المتعلقة بفكرة الولايات المتحدة أن تقوم إسرائيل بتجميد الاستيطان
في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس، تمهيدا لاستئناف المفاوضات الجامدة
بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث وصلت ذروة الأزمة إلى حد التدابر
النسبي بين القيادتين ما لبث أن انفرج بإجراءات إسرائيلية مؤقتة جدا،
وفُرِّغ القرار من محتواه واستثنيت القدس، وهو ما لم يرق للمطلب الأمريكي،
ونظرا لوضع الولايات المتحدة المتردي عسكريا في العراق وأفغانستان، فإنها
بحاجة ماسة للتعاون من قبل إسرائيل فيما يتعلق بإطلاق مفاوضات ماراثونية
للسلام في الشرق الأوسط، وفوجئت الإدارة الأمريكية بعدم تفهم الحكومة
الإسرائيلية بزعامة نتنياهو لهذه الحاجة والمصلحة الأمريكية، وبرغم تصاعد
تصريحات أمريكية رفيعة المستوى إزاء رفض الموقف الإسرائيلي لدرجة اعتبار
موقفها عبئا على سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، غير أن الإدارة
الأمريكية، وبتدخل اللوبي الصهيوني بين الجانبين، ما لبثت أن احتوت الأزمة
وحجّمت تداعياتها رغم عدم التحول في موقف الحكومة الإسرائيلية، ولا زال
الخلاف قائما، لكنه عاد إلى حجمه الجزئي في سياق العلاقات الاستراتيجية بين
الجانبين.
وبالنظر إلى هذا الثبات الاستراتيجي في العلاقة، وبرغم تفجر نقاط خلاف،
وربما أزمات ذكر المقال بعضا منها، غير أن الرؤية الاستراتيجية المشتركة
بين الطرفين في الصراع العربي- الإسرائيلي فيما يتعلق بدور إسرائيل في
المنطقة تظل الناظم الأهم لطبيعة العلاقة من جهة، وتستخدم أدوات هذه
العلاقة وأطرها عادة لاحتواء الأزمات التكتيكية بينهما من جهة أخرى، ما
يجعل التحول في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل وفق الظروف والمعطيات
القائمة أمرا غير متوقع، خاصة في ظل غياب دور عربي دولي كبير يشكل قلقا
للولايات المتحدة على مصالحها، ويهدد أمن قواتها، أو يهدد مصادر الطاقة كما
حصل عام 1973، وكذلك إمكانات وقف التعاون الأمني مع الأجهزة الأمنية
الأمريكية لمواجهة مصادر التهديد لأمريكا فيما عرف بالحرب الدولية
على"الإرهاب"، ولذا فإن الخلاف الأمريكي- الإسرائيلي سرعان ما يتحول إلى
خلاف تكتيتكي يتم احتواؤه بأشكال متعددة في كل منعطف، ومن ذلك أزمة استئناف
مفاوضات السلام، وتجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة مؤخرا.