|
تحولات إستراتيجية تدعم المشروع العربي
جـواد الحـمد مثلت مجموعة المتغيرات الإستراتيجية في المنطقة والعالم خلال السنوات الخمس الماضية إطارا ناظما لرسم ملامح مستقبل منطقة الشرق الأوسط، ومحددا حاسما لكثير من سياسات النظام الدولي تجاهها،سادت ظاهرة تنامي قوة ونفوذ المقاومة ونجاحها في مواجهة الاحتلال سواء الإسرائيلي في فلسطين أو الأمريكي في العراق وأفغانستان، بل وشكلت خيارا شعبيا تتكتل حوله مكونات المجتمع المدني والحزبي الرئيسة في المنطقة ، وقد مثلت تيارات الإسلام السياسي المستنير عصب هذه المقاومة، وعصب التحركات الشعبية ، وبالطبع إلى جانب حليفاتها من القوى الأخرى القومية واليسارية والوطنية والمستقلة ، وأصبحت ظاهرة التحول الاجتماعي المتصاعد لصالح هذا التيار تثير الكثير من القلق في الأوساط الغربية بسبب ما تحمله من عوامل الاستقلال والتحرر. وعلى نفس المستوى أثارت قلق النخب الحاكمة التي تعتقد أن صعود هذه التيارات يشكل تهديدا لسلطاتها الحاكمة في بعض الأقطار العربية. وللتركيز على طبيعة هذه التحولات وتداعياتها على مستقبل النظم الحاكمة وعلى علاقات المنطقة بالنظام الدولي وسياساته ومصالحه، فانه من المثير للدهشة ملاحظة ان الشعوب العربية وخاصة الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من ويلات الاحتلال، قد قرر بانتخابات حرة ان ينحاز لصالح قوى المقاومة التي يقودها هذا التيار، وبالتالي تحمل تبعات المواجهة التي تقودها إسرائيل والولايات المتحدة لمنع هذا التيار من الاستقرار في الحكم، ومنعه من تقديم النموذج العربي الجديد في الحكم والمقاومة في آن واحد، وهو ما دفعها إلى شن الحرب الدولية على ما يسمى الإرهاب بتعريف واسع متغير حسب مصالحها أولا ، من ثم فرض الحصار السياسي والاقتصادي ضد هذه القوى والشعب الذي يؤيدها ، وبرغم شدة الحصار واتساعه غير أن قدرة هذا التيار على الصمود والتكيف أدهشت العالم الذي اتجه ليبحث عن سبل جديدة لا تزال تتمحور حول أسلوب الاستبعاد والمحاصرة والمواجهة بهدف عدم تحقيق الاستقرار للحكم أو القيادة التي يمثلها هذا التيار . لكن التجربة الفلسطينية في التعامل مع الحصار الدولي الظالم وشكلت التجربة الفلسطينية نقطة تحول مهم في التحليل الاستراتيجي لمستقبل المنطقة في ظل حكم هذا التيار الإسلامي السياسي المستنير، فبرغم العجز الذي ساد ميزانية السلطة الفلسطينية، وبرغم سيطرة الاحتلال على معظم مفاصل الحياة اليومية للفلسطينيين، وبرغم ممارساته المتواصلة بالقتل والاعتقال والمصادرة والهدم والمنع من السفر بل والحركة داخل فلسطين ذاتها، غير أن حركة حماس تمكنت من فرض نفسها على الخارطة السياسية، صحيح أن ذلك كان عبر التضحيات في تحمل العنف السياسي الداخلي الذي فرضته عليها مليشيات مرتبطة بمشروع الاحتلال، ولكنه كذلك كان بسبب القدرة والكفاءة في المرونة السياسية التي أبدتها في التعامل مع القوى الأخرى ومع الشأن الداخلي، وقدرتها على إحداث اختراقات مهمة في جدار الحصار عربيا ودوليا وفق سياسة توصف بأنها محسوبة بدقة، وواعية لطبيعة توازن القوى والمتغيرات، ولطبيعة المشروع الذي تحمله، وللمسئولية التي تقع على عاتقها وهي تتربع على قيادة السلطة الفلسطينية وتحمل بندقية المقاومة . حيث مثل التوصل إلى "وثيقة الوفاق الوطني" بقدر من التنازلات السياسية المنضبطة من قبل حركة حماس، وبالتوصل إلى اتفاق مكة الذي شكل رافعة جديدة للحياة السياسية الفلسطينية ، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الأولى في تاريخ الشعب الفلسطيني، وقفة مهمة في ملاحظة قدرة حركة حماس على بناء توازن سياسي وامني واجتماعي في الأراضي المحتلة ، ونجاحها في إحداث تحول مهم في توجهات المجتمع الدولي لدرجة الخلاف على كيفية التعامل معها ، والذي مثل اجتماع الرباعية الدولية في 21 آذار/مارس 2007 مشهدا مهما من مشاهده عندما اندلع الخلاف بين أعضائها على كيفية التعاطي مع اتفاق مكة ومن ثم مع الحكومة الفلسطينية الجديدة وحركة حماس. ويمكن القول بان هذا التحول الفلسطيني بقيادة هذا التيار المستنير مثل رافعة إستراتيجية جديدة للقضية الفلسطينية أخرجتها من دائرة الخيار الواحد الذي يجعل الورقة كلها بيد الاحتلال إلى دائرة الخيارات المفتوحة التي تجعل الاحتلال الإسرائيلي يعيد حساباته. وقد انضم هذا التحول الفلسطيني الداخلي إلى التحول الكبير الذي نجحت في تحقيقه المقاومة اللبنانية بانتصارها على العدوان الإسرائيلي وجيشه المدجج في حرب يونيو/تموز 2006، وبذلك أعادت المقاومة بقيادة هذا التيار المستنير على مختلف المحاور والجبهات الاعتبار للخيارات المستقلة الداخلية للأمة، ومثلت رافعة إستراتيجية لمشروعها النهضوي القائم على الاستقلال والتحرر والتنمية الحضارية الشاملة وذلك رغم اختلاف المسميات وربما بعض المكونات الأيديولوجية بين فصائل المقاومة الإسلامية في كل من لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان . إذن يمكن القول أن الرافعة الفلسطينية بالفعل وفرت فرصة جديدة لتغيرات عربية وإسلامية أوسع، خصوصا وأنها تستند إلى رافعة شعبية عربية وفلسطينية بل وإسلامية على المدى الجغرافي للأمة، كما أنها ساهمت في بلورة اتجاهات دولية أولية وروافع إستراتيجية أخرى في مواجهة قوى الهيمنة والاستعمار الدولية، ناهيك عن نجاحها في زعزعة استقرار المشروع الصهيوني العدواني في المنطقة، كما تاهت مع تحولات أخرى تشهدها أوروبا وروسيا والصين وأميركا اللاتينية ضد تيار الهيمنة والاستغلال الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ، وفي نفس الوقت مثلت الرافعة العربية منها حاضنة دافئة لهذه التغيرات في قلب المنطقة في فلسطين وعلى الأطراف. لكن استثمار هذه التحولات لصالح المشروع العربي إنما يتطلب عددا من الشروط والمحددات الموضوعية ، ومن أهمها : 1- تحرير الإرادة السياسية العربية الرسمية منها والحزبية من القيود التي فرضتها قوى الهيمنة عليها طيلة العقود الماضية 2- السعي لتأكيد الشرعية الشعبية والسياسية للنخب الحاكمة، ولجوئها إلى قوى الشعب في كل قطر ، عبر الانتخابات الحرة والنزيهة بين مختلف القوى 3- السعي لتطبيق برامج التحرر من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي فرضتها قوى النظام الدولي على دولنا وشعوبنا 4- إجراء مصالحة وطنية واسعة بين مختلف القوى السياسية ووقف سياسات التهميش والإقصاء والاستبعاد، ووقف إجراءات العنف التي تستخدمها بعض الأنظمة لقمع المعارضة الوطنية الحرة وخاصة من التيار الإسلامي والوطني والقومي ، وبالتالي العمل على بناء وحدة وطنية متكاملة تقوم على تقاسم السلطة وفصل السلطات وتداول السلطة سلميا . 5- تبني ودعم خيارات المقاومة ضد الاحتلال في فلسطين والعراق وأفغانستان بوصفها روافع إستراتيجية لمشروع الأمة النهضوي ، وان مشاريعها في التحرير تمثل جزءا رئيسيا من هذا المشروع، وأنها موجهة ضد الاحتلال وليس ضد الحكومات القائمة. في ظل تحقق مثل هذه الشروط والمحددات بسعي القوى السياسية وبعض الحكماء في النخب الحاكمة في مختلف الأقطار يمكن لمشروع الأمة النهضوي التحرري أن يستفيد من الروافع الفلسطينية والشعبية العربية والدولية لتحقيق أهدافه بالتحرر والاستقلال وتحقيق الاستقرار والأمن والتنمية .
جـواد الحـمد أعلى الصفحة عودة لرؤيتنا للمتغيرات
|
|
|
|
---|