|
إسرائيل تهرب من الاستحقاقات السياسية لتسوية
الصراع
جـواد الحـمد فاجأت إسرائيل الدول العربية وهي تحضّر للقمة العربية في الرياض نهاية آذار/مارس 2007 بمطالبتها بتعديل المبادرة العربية -التي تنص على الانسحاب الإسرائيلي الكامل وحق اللاجئين في العودة مقابل التطبيع الشامل- وطالبتها بتطبيع علاقاتها معها بغض النظر عن أي تقدم على مسار التسوية السياسية للصراع، وخصوصا فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية، وهي بذلك تحاول أن تتحرك بدبلوماسية الهجوم على التوجهات العربية المستجدة التي تستند إلى موقف فلسطيني جدي جديد يقوم على برنامج وسيط بين المقاومة والتفاوض، والذي تتولى قيادته عبر الحكومة الفلسطينية حركة (حماس) ، وتتولاه حركة (فتح) عبر منظمة التحرير. وما يجدر ذكره أنه ومنذ توقيع اتفاق مكة بين حركتي فتح وحماس، وعلى اثر نجاحهما في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الأولى في تاريخ الشعب الفلسطيني وبقيادة حركة (حماس) استشعرت إسرائيل الإشكاليات الإستراتيجية التي تفشل الكثير من برامجها وتوجهاتها السياسية والعدوانية تلك التي وضعها فيها اتفاق مكة الفلسطيني في 8 شباط 2007، وخاصة ما يتعلق بدخوله حلبة التحدي إزاء جدية الجانب الإسرائيلي في التوصل إلى تسوية دائمة وعادلة للصراع وفق القانون الدولي، حيث أفسحت قيادة المقاومة ممثلة بحركة حماس -ولأول مرة- الفرصة أمام اختبار النوايا الإسرائيلية والأمريكية بتفويض منظمة التحرير والرئيس محمود عباس ، رئيس السلطة الوطنية بهذه المهمة- وهو الرجل والموقع الذي طالما تغنت إسرائيل وأمريكا باستعدادها للتعاون معه- وهو ما اشعر إسرائيل أن حركة (حماس) أصبحت من الخبرة والدهاء السياسي لدرجة وضعها في الزوايا الحرجة واختبار استراتيجياتها وكشف نواياها، وقد ساعد على تشكل هذه الحالة الإسرائيلية التفكك الذي تتعرض له الحكومة القائمة والحزب الذي يقودها اثر تداعيات قضايا الفساد ونتائج حرب حزيران/ تموز 2006 على لبنان، ونجاح اتفاق مكة الفلسطيني بتحقيق اختراق عربي ودولي غير مسبوق، وفي أحداث انقسام وخلاف اندلع في اجتماع اللجنة الرباعية الدولية في 21 شباط الماضي بين الولايات المتحدة وكل من روسيا وأوروبا حول أهمية رفع العقوبات عن السلطة الفلسطينية وفك الحصار عن الشعب الفلسطيني، فيما اعتبر قبولا مبدئيا بموقف حركة (حماس) في وسط الطريق مع شروط اللجنة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط، خصوصا في زيارة حماس إلى موسكو، وزيارات الحكومة إلى أوروبا، الأمر الذي تسبب بعدم القدرة على الاتفاق بين دول الرباعية على البيان الختامي بهذا الشأن، حيث اجل إلى اجتماع يعقد أواسط ابريل القادم بعد القمة العربية في الرياض. غير أن ثمة معلومات تؤكد عقد اجتماعات ولقاءات بين مسؤولين عرب وآخرين إسرائيليين، على المستويين السياسي والأمني وفي أكثر من عاصمة عربية بل وفي إسرائيل أيضا، وهي التي تفسر الجرأة الإسرائيلية في مطالبة العرب بالتطبيع معها بغض النظر عن القضية الفلسطينية وكأن مشكلة الصراع هي مشكلة إسرائيلية بدل أن تتعامل مع حقيقته كمشكلة فلسطينية تتعلق بالحقوق والحرية والدولة والعودة وتقرير المصير. من جهة ثانية فان السياسة الإسرائيلية التي كانت تلقي الكرة في الملعب الفلسطيني المختلف والمتباين والعربي المرتبك وغير الواضح قد انكشفت، وفقدت مفعولها بعد اتفاق مكة، مما دفعها إلى محاولة الالتفاف على الواقع الجديد بالقفز على حقيقة الصراع وإشغال العرب بموضوع جانبي لم يحن وقته حتى لدى معسكر السلام المتحالف مع الولايات المتحدة، وذلك لان الجانب الإسرائيلي أدرك أن المرحلة الجديدة ستفرض عليه قريبا جدا دفع الاستحقاقات السياسية التي طالما تهرب منها بكل قياداته طيلة عملية السلام( 1991-2006)، وهي الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 خط الرابع من حزيران/تموز ويشمل ذلك القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين وتفكيك الاستيطان وإلغاء كل قرارات الضم السابقة، وهو الأمر الذي لا يلقى اتفاقا إسرائيليا عليه، حيث أن ثمة إجماع داخل إسرائيل على رفض عودة اللاجئين أو الانسحاب الكامل من القدس الشرقية أو قبول دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على كل أراضي 1967 إلى جانب إسرائيل، ما يعني أن الحكومة الحالية التي تعاني من الضعف والانهيار كما أسلفنا تبدو غير قادرة على تقديم شيء ذا قيمة من هذه الاستحقاقات ، كما أن البديل اليميني وهو حزب الليكود المتطرف المتوقع أن يفوز في الانتخابات في حال سقوط الحكومة وتراجع حزب كاديما في الانتخابات المبكرة يتشدد هو الآخر بدرجة اكبر في مختلف هذه المسائل، ما يعني انه ليس في إسرائيل قوة سياسية أو زعيم مستعد للتوصل إلى سلام دائم او عادل مع العرب حتى وفق اتفاقات أوسلو وخارطة الطريق. في ضوء ذلك يتبين أن إسرائيل تلجأ إلى الهجوم الدبلوماسي على المبادرة العربية لتفرغها من محتواها بتطبيق التطبيع دون الانسحاب الذي قامت المبادرة على أساسه، علما بان إسرائيل بقيت ترفضها طيلة خمسة أعوام، وقال شارون حينها أنها لا تستحق الحبر الذي كتبت به، وقام باجتياح الضفة الغربية وارتكاب مجازر إبادة جماعية بحق الفلسطينيين بعد يومين من إعلان المبادرة ردا عليها، ما يشير إلى أن ثمة أمر لا زال غير واضح تماما يقف وراء الموقف الإسرائيلي الجديد "بان في المبادرة نقاط ايجابية" ، ولكن يبدو أنه لا علاقة له بجدية أو استعداد إسرائيلي جديد لتقديم تنازلات حقيقية عبر المفاوضات السياسية. وبالطبع وتشير بعض الأوساط أنه ربما سايرت بعض الإطراف العربية إسرائيل سريا لتتخذ هذا الاتجاه، خصوصا تلك التي تقيم علاقات وتطبيع مع إسرائيل فعلا بعيدا عن ربطه لا بالمبادرة العربية ولا بتحقيق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وهي التي ربما تشعر بشيء من الضرر الذي أصابها بعد توحد الموقف الفلسطيني ودخول الموقف الإسرائيلي في النقطة والزاوية الحرجة إزاء عملية التسوية السياسية، الأمر الذي يشجع إسرائيل على الجرأة لطرح يتجاوز حتى مسميات اتفاقات السلام مثل : "أوسلو وخارطة الطريق" لتتجه مباشرة نحو تحقيق مكسب كبير بلا ثمن أو هكذا تأمل، ولتقفز بذلك فوق النار بعيدا عن المواجهة السياسية القادمة مع الجانب الفلسطيني الموحد، والمدعوم بفصائل المقاومة المسلحة التي تراقب التغيرات وتتعامل معها بحنكة لا تعجب الإسرائيليين. محاولة القفز الإسرائيلي عن القضية الفلسطينية والدخول على الدول العربية بعيدا عنها ليست جديدة، فقد سبقتها محاولات عديدة كان أخطرها توقيع معاهدة كامب ديفيد ومعاهدة وادي عربة مع كل من مصر عام 1978 والأردن عام 1994، لتنجح إسرائيل بذلك في الاستفراد بالعرب أولا ، ثم الاستفراد الكامل بالفلسطينيين ليقبلوا بما تقدمه إسرائيل لهم من فتات الحقوق، آخذا بعين الاعتبار أن إسرائيل لم تتمكن من الوفاء بالاتفاقات التي وقعتها مع الفلسطينيين حتى في ظل التنازلات الكبيرة التي قدمتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة (فتح) في عهد الراحل ياسر عرفات وعلى رأسها ما عرف برسائل الاعتراف المتبادل. كما يشار إلى الفشل الإسرائيلي المتواصل في إقناع الجانب العربي والفلسطيني بصدق نواياها بالتوصل إلى سلام عادل ودائم، حيث تطالب دوما بالتنازل من الطرف الآخر وان يعترف بها ويتعامل معه، ثم لا تكاد تقدم أي نوع من التنازلات الحقيقية عن مواقفها الإيديولوجية في مختلف عهود حكوماتها اليمينية واليسارية على السواء، بل تستمر في برامج الضم والاستيطان والمصادرة وانتهاك حقوق الإنسان والاعتقالات والاغتيالات وكأنه لا حوار ولا تفاوض ولا عملية سلام ، وجاءت خطة شارون بالفصل الأحادي الجانب واجتياح الضفة الغربية وتدمير السلطة الفلسطينية عام 2002، والانسحاب من داخل قطاع غزة مع إبقاء كل الإجراءات الاحتلالية عليه عام 2005، لتقدم نموذجا يؤكد الشكوك العربية السابقة كافة. إذن يمكن القول أن إسرائيل بهذا الموقف تحاول أن تخلط الأوراق قبل أن تتحول الضغوط عليها ، وقبل أن تقع في فخ اتفاق مكة الفلسطيني والاختراقات التي حققها ، خصوصا في حال تمكنت العربية السعودية من إقناع العرب بتبني الاتفاق ودعم حكومة الوحدة الوطنية الجديدة التي تقودها حركة حماس في القمة العربية القادمة في الرياض، ناهيك عن التطبيع السياسي المتوقع بين حركة (حماس) والدول العربية، خصوصا المملكة الأردنية الهاشمية والذي لاحت بعض بوادره في الأفق استجابة للمتغير الاستراتيجي الفلسطيني الجديد وخوفا من العزلة التي قد تصيب أي موقف عربي متشدد إزاء حركة (حماس) بعد اليوم . من المهم الإشارة في نهاية هذا التحليل للموقف الإسرائيلي أن التعهدات التي يقدمها البعض لإسرائيل في الخفاء، والتي يحاول أن يمررها بشكل أو بآخر في السياسة إنما تتسبب بضرر بليغ على كل الموقف العربي ومصالحه بما في ذلك هذه الأطراف ذاتها، وان التوحد الفلسطيني الجديد يمثل فرصة تاريخية للعرب للتوحد خلف مكوناته ومعطياته ، ودون ممارسة اي ضغط او شروط جديدة عليه، وثمة فرصة في المجتمع الدولي لتسويق الوضع الجديد لصالح تحويل الضغط الدولي على إسرائيل بدل استمرار الضغط الأمريكي على الحكومات العربية وابتزازها بمشاريع الإصلاح السياسي والديمقراطي بحجة التطرف والعنف وانتهاك حقوق الإنسان. إن استثمار مثل هذه الفرص يلزمه تبني إستراتيجية عربية جديدة تستند إلى إرادة سياسية تتمتع بشئ من الاستقلال، وتقف على أرضية اتفاق مكة الفلسطيني الصلبة لتدعم الشعب الفلسطيني وحكومته وقضيته، مع الأخذ بالحسبان انه برغم ما فتح اتفاق مكة من فرص سياسية لمختلف الأطراف لتحقيق أجندتها السياسية، غير أن الاتفاق أعطى مؤشرا في غاية الأهمية: وهو أن الفلسطينيين اليوم ليسوا مأزومين في خيار واحد القائم على مقدار الاستجابة الإسرائيلية لأي مشروع سياسي، بل تؤكد وثيقة الوفاق الوطني -التي هي جزء من اتفاق مكة، أن خيار المقاومة سيبقى ويتصاعد إضافة إلى خيار الانتفاضة -التي هددت بعض الفصائل بإشعالها- إذا لم يتمكن المجتمع الدولي من إجبار إسرائيل على الانسحاب الفعلي خلال عام 2007، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة.
جـواد الحـمد أعلى الصفحة عودة لرؤيتنا للمتغيرات
|
|
|
|
---|