|
برامج وأجندات مراكز الأبحاث العربية وعلاقتها بقضايا ومصالح الوطن العربي
إعداد
مقدم إلى مؤتمر المحتويات تشكل مراكز الدراسات الرصينة مصدراً أساسياً للمعلومات والنصح لصنّاع القرار على مختلف مستوياتهم، حيث تؤدّي مراكز الأبحاث والدراسات في الولايات المتّحدة على سبيل المثال دوراً أساسياً في مجال اتخاذ القرار، بل ربما يذهب البعض إلى القول بأنّ بعض تلك المراكز تشكّل خطوطاً خلفية للبيت الأبيض أو وزارة الدفاع. إنّ الدور الأساسي المنوط بهذه المراكز يتركّز على تحليل الواقع، وتقديم رؤى مستقبلية من أجل النهوض بواقع جديد أو تطوير الواقع الحالي إلى مستوى أفضل، وفق مرجعيات أكاديمية واستراتيجية، بعيداً عن الارتجال، أو النظرة الأحادية. وهو ما دفع بعض المفكرين والساسة إلى تسمية هذه المراكز بخزانات التفكير (Think Tanks). لكن الوضع يبدو مختلفاً في العالم العربي -الذي شهد في السنوات العشرة الماضية فورة في مراكز الدراسات والبحوث- حيث تُعاني معظم هذه المراكز من مشاكل كثيرة، أهمّها: - مشكلة التمويل: وهي مشكلة متعددة الأبعاد، حيث يغيب التمويل المحايد، الذي يمكن أن يأتي من الدولة على شكل مخصصات للبحث العلمي، وبالتالي تقع المراكز إما فريسةً للتمويل الأجنبي بكل أشكاله، ممّا قد يدفعها للوقوع في المحظور والمشبوه، أو أنّ عليها مواجهة شبح العازة والإغلاق. مع التنويه إلى وجود بعض النماذج القليلة التي تمكّنت من توفير مصادر محليّة وعربية، دون الحاجة إلى المشبوه من التمويل. - الرؤية الفردية، فمعظم مراكز الأبحاث العربية هي مراكز أشخاص، حيث يحمل المركز رؤية وأفكار وكلمات صاحبه، وربما يغلب اسمه على اسم مركزه، فلا يُعرف إلاّ من خلاله، أو مراكز دول تتحكم فيها كذلك رؤية الدولة وقيادتها. - التوجّه الفكري: فكثيرٌ من المراكز تخلط، بقصد أو بغير قصد، ما بين دور مركز الدراسات كبؤرة للتفكير والتخطيط، وما بين دور الحزب السياسي أو المنظمات الجماهيرية، كما أن كثيراً منها أُنشئ أو تحوّل إلى منبر تعبوي لأفكار السلطة السياسية الحاكمة. - السقف الديموقراطي: بطبيعة الحال فإن مراكز الدراسات لا يمكن أن تقوم بعملها، دون مجال كافٍ للوصول إلى المعلومات من جهة، وإلى البحث العلمي دون قيود سياسية أو فكرية من جهة أخرى، وهو ما تفتقده معظم مراكز البحوث والدراسات العربية، التي تعاني من قيود لا حصر لها، تبدأ من الأجهزة الأمنية ولا تنتهي عند الأحزاب السياسية والمفكرين وأشباه المفكرين. هذا ناهيك عن الحصار المضروب على المفكرين وأصحاب الرأي المستقل حيث لا يرحب بهم في بعض الأقطار العربية بمجرد ملاحظة أو اختلاف مع رأيه أو تحليله أو أنه نقد سياسة الدولة أو ما شابه، مما يطعن في مصداقية الحرية الأكاديمية، والفكرية في الوطن العربي. أجندات وبرامج مراكز البحوث والدراسات وفي ضوء ما تقدّم فإنّ من اليسير القول بأن معظم مراكز الدراسات والبحوث في العالم العربي تخضع برامجها وخططها إلى واحدٍ من اعتبارين: - موافقة متطلبات الممول، في طرح الموضوع وفي ترتيب أولويّته، وفي كيفية التعاطي معه. - الترويج لأيديولوجية معيّنة، أو سياسةٍِ ما. وقلّما يكون التخطيط مستنداً إلى رؤية استراتيجية تتعلّق بالاحتياجات المجتمعية، أكانت قُطرية أم إقليمية أم دولية، أو إلى معطيات بحثية وأكاديمية. وربما يكون لهذه المراكز الكثير من المبررات، التي غالباً ما تبدو منطقية، حيث تتّسع الفجوة بين صنّاع القرار من جهة، وبين المفكرين والباحثين في هذه المراكز من جهة أخرى، حتّى يُخيّل أحياناً أنّ الأجهزة الأمنية في الدولة هي وحدها المعنية بما يُنشر منها. وقد دفعت حالة التباعد بين مراكز صناعة القرار ومراكز الدراسات العربية، إلى الاكتفاء بمعالجات آنية محدودة لا ترتقي إلى مستوى التفكير الاستراتيجي، مما أوجد نوعاً من الهدر المعرفي وضياعاً للجهد العلمي . من جهة أخرى، فإنّ المهتمين عادة بما تنشره هذه المراكز، والمتمثّلين بطبقة "النخبة المفكرة"، لا يمتلكون في معظمهم القدرة على دفع تكاليف الأبحاث والدراسات الجادة التي يمكن أن تقوم بها هذه المراكز، إنْ كانت ستقوم ببيعها للجمهور، كما أنّ المؤسسات المعنية بالبحث العلمي والأكاديمي، كالجامعات مثلاً، تستنكف عن دعم مراكز البحوث والدراسات، باشتراكاتها، لأسباب كثيرة، يعود بعضها إلى هوى حكومي، أو فقر معرفي، وغالباً ما تكون مخصصات البحث العلمي في هذه الجامعات، وهي مخصصات متواضعة أصلاً، أول ضحية لأيّ تقشف تقوم به إداراتها!. ولذلك تبرز إشكالية رسم برامج وخبرات المراكز حيث تخضع لمعايير يرتبط بعضها بقضايا الوطن العربي وحاجته الفعلية، فيما يرتبط معظمها بعوامل أخرى أهمها: · رغبة جهة التمويل وحاجاتها ومتطلباتها. · متطلبات السوق لجهة البيع والاستثمار فيها. · البحث عن الحضور الإعلامي باعتباره جزءاً من الكفاح للبقاء. وهنا نلفت الانتباه إلى أن مواضيع مثل التنمية الاجتماعية والاقتصادية وحل مشكلة البطالة، وحسم الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم الاحتلال الأمريكي للعراق وما ترتب عليه من مشاكل وتوترات في المنطقة، تعد من أولويات مراكز الدراسات العربية –حسب رأينا-. ومن أجل وضع أولويات ولقعية من جهة، ومرتبطة بمصالح الأمة وقضاياها، وتصب في خياراتها النهضوية فإن لجنة أكاديمية عربية عليا يمكن أن تخدم باقتراح البرامج والأجندات سنوياً، وحسب المتغيرات لتطرحها على مختلف مراكز الأبحاث العربية لتختار من بينها. كما أن تبادل الخطط السنوية في الأبحاث والمؤتمرات قبل بداية العام بين المراكز يُسهم في دعم بناء تكامل عربي حقيقي بحيث يدعم كل مركز المركز الآخر في مجاله. يُعد التمويل أساس نجاح وإبداع مراكز الدراسات؛ حيث تُعد البحوث والدراسات من الأعمال المكلفة نسبياً، ودون أن تطمئن مراكز الأبحاث لمصادر تمويلها وتوفير ميزانياتها يصعب عليها السعي وراء تفريغ فرق عمل لإعداد دراسات على مستوى عالٍ من النضج، وترتبط بقضايا الوطن العربي. ونظراً لضعف الثقافة المجتمعية لدى الجهات التي تملك المال في توفير مخصصات للبحوث والدراسات الجادة فقد لجأت كثير من مراكز الدراسات والبحوث، وعدد من مؤسسات المجتمع المدني، في العالم العربي، إلى طلب التمويل الأجنبي، وهو تمويل سخي، مقارنة بتمويل محلي لا يكاد يُذكر. وقد شهدت السنوات الأخيرة حملات حكومية عربية من جهة، وأخرى من القوى المعارضة لها، لهذا التمويل الذي تتلقّاه مؤسسات المجتمع المدني ككل، ومراكز البحوث والدراسات على وجه الخصوص، على اعتبار أنّها أصبحت جزءاً من الحملات الغربية على بلدانها، خاصة فيما يتعلق بقضايا الديمقراطية والإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، وصاحبَ هذه الحملات اتهاماتٌ بالتخوين والعمالة، وربما أحكام بالسجن والإغلاق والملاحقة. خطورة التمويل الأجنبي: من المعروف أن التمويل هو مدخل السيطرة على القرار والتوجه والأجندة عادة، فالذي يضع الأجندة هو الذي يصنع القرار ويحدد الأولويات والاهتمامات، والتمويل الأجنبي يهدف إلى التأثير على مجريات التغير في المجتمع العربي. ولذلك فهو لا يخضع لقاعدة العمل الخيري أو نظرية البراءة، وعليه فإننا نعارض التمويل الأجنبي بالشكل الذي ترسمه الجهات الداعمة حالياً، خاصةً وأنه قد يحمل في طياته إمكانات التأثير السلبي على المجتمع، وبذلك يمكن أن يؤثر على توجهات مؤسساتنا واهتماماتها وأولوياتها. خاصةً وأن أولويات العمل المدني في المجتمع والبحوث والدراسات تختلف في وضعنا العربي عنها في المجتمعات الغربية لاعتبارات الثقافة، والبنية الاجتماعية من جهة، ولاعتبارات الفارق الحضاري من جهة أخرى. مقترحات حول تمويل مراكز الأبحاث العربية من المهم أن يُقدّم المعارضون للتمويل الأجنبي بدائل وطنية مناسبة، تُغني تلك المراكز عن طرق الأبواب الأجنبية، أو تدفعهم لصدّ من يطرق أبوابها منهم، فبينما يتمّ تخصيص أموال طائلة من قبل هذه الدول، أو يتمّ تشجيع الشركات وأصحاب الأموال على بذلها، لدعم الرياضة مثلاً، فإنّ من الممكن أيضاً أن تحصل مراكز الدراسات، ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، على نصيب من ذلك، إن لم تكن هي الأوْلى بالحصول عليه أصلاً. وفيما يلي أقدم عدداً من المقترحات حول تمويل مراكز الدراسات العربية بأموال عربية: 1. إنشاء "وزارة للبحث العلمي" لتكون هي الجهة المسؤولة عن السعي لتوفير الدعم المعنوي والمالي لمؤسسات ومراكز البحث العلمي في القطاعين الخاص والعام، وأن تكون مدخلاً للتنسيق في مجالات الاهتمام والتخصص. 2. تشكيل "جمعية أو رابطة لمراكز ومؤسسات البحوث والدراسات" على مستوى الوطن العربي لتكريس التوجه العربي الملتزم، وتوفير التمويل العربي للبحوث والدراسات. 3. تحويل جزء كبير من "ميزانية الاستشارات في الدولة" والشركات الكبرى إلى المؤسسات البحثية العربية -بدل المؤسسات الأجنبية- بهدف تفعيل دورها الوطني والعربي ودعمها مالياً وعلمياً، وهو ما يمكن أن يكرسها كعقل مفكر حقيقي منتمٍ بعيداً عن الأيادي الخارجية. اقتطاع مبالغ محددة "كرسوم لغايات البحث العلمي" على المؤسسات الكبرى برأسمال محدود لدعم مؤسسات القطاع الخاص والمؤسسات الحكومية المتخصصة في البحوث. لقد حاولتُ في هذه الورقة، أن أمرّ بشكل سريع على عدد من الهموم التي تعيشها مراكز الدراسات والبحوث العربية، والتي لا يخلو منها أو من بعضها مركز عربي. وسأحاول هنا أن أقدم بعض التصورات والمعطيات التي يمكن أن تسهم في تفعيل برامج مراكز الأبحاث العربية من جهة، وتساعد في ربطها بقضايا ومصالح الوطن العربي من جهة أخرى: أولاً: الإصلاح الديموقراطي: إنّ الإصلاح الديمقراطي هو مطلب أساسي لأي عملية تنمية سياسية أو اقتصادية فاعلة، وهي أساس للتطوّر المجتمعي ككل. ومن المنطقي أن يبقى الحديث عن تفعيل دور مراكز الدراسات والبحوث في العالم العربي قاصراً ومحدوداً طالما بقيت القيود الحكومية المختلفة على المعرفة وحرية الرأي والتعبير وحرية الوصول إلى المعلومات، وربما كان المناخ الديمقراطي الحرّ سبباً مساعداً في الرقي بعمل هذه المراكز، ودفعها نحو الارتباط بأجندة مجتمعاتها بشكل أكبر. ثانياً: التمويل الوطني والعربي وإن كنت قد تطرقت إلى هذا الموضوع سابقاً، إلا أنني هنا أضيف بأنه قد يكون الحديث عن التمويل الوطني والعربي لمراكز الأبحاث مرتبطاً بالحديث عن الإصلاح الديمقراطي، فلا يمكن الحديث عن تمويل حكومي لمركز دراسات في غياب حكومة ديمقراطية منتخبة، لا تفرض على هذه المراكز أجندات وبرامج، قد لا تقل خطورةً عن تلك التي قد تفرضها الحكومات والمؤسسات الغربية. لكن المؤسسات التجارية والشركات العربية وأصحاب رأس المال مدعوة إلى التفاعل مع مراكز الدراسات والبحوث، وإدراك أهمية الدور الحيوي الذي تقوم أو يمكن أن تقوم به. حيث يمكن لمركز دراسات أن يقوم بإجراء العديد من الدراسات والبحوث التي تخدم القضايا الوطنية والعربية بثمن سيارة يمكن ربحها من غطاء أحد المشروبات الغازية.. كما أنّ الجامعة العربية، والمؤسسات المنبثقة عنها، مدعوة أيضاً إلى دعم مؤسسات المجتمع المدني بتمويل عربي لا يخضع لهوى حكومة بعينها، ولا لرغبات ممولين غرباء، وربما يمكن ذلك بإنشاء صندوق وإدارة تمويل المشروعات التي تراها تخدم الأمة وقضاياها. ثالثاً: الهيكلية المؤسسية تحتاج الكثير من مراكز البحوث والدراسات إلى أعادة هيكلة، تشبه تلك التي تطالب بها هذه المراكز لمؤسسات الدولة، حيث تعاني تلك المراكز من بيروقراطية قاتلة، ومركزية شديدة. رابعاً: التخصص والموضوعية وهنا نتحدّث عن أهمية تركيز العمل وتوجيهه، والسعي نحو التخصصية، وهو شرط اساسي في مجال المنافسة والتميّز. وقد تتخذ التخصصية الطابع الجغرافي أو المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاستراتيجي، أو طابع الاستشارات، أو في مجال الدراسات الأوروبية والأمريكية أو الآسيوية، أو العلاقات الدولية، وغيرها من التقسيمات التخصصية. وختاماً أعتقد أنه الأوان لإنشاء مؤسسة أو جمعية تنسيقية بين مراكز البحث في العام العربي بكل تنوعاتها، وأن يُعقد لها مؤتمر كل خمس سنوات في بلد عربي مختلف بأمانة عامة منتخبة، يمكنها أن تعقد مؤتمراً علمياً موازياً، لتناول التحولات الاستراتيجية الكبرى في الوطن العربي، وما يتصل به من تحولات دولية. |
|
|
|
---|