|
تحليل
اغتيال الشيخ ياسين وخليفته
منعطف استراتيجي في الصراع في المنطقة*
خط يوم الاثنين 22 مارس
2004 مرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني، وشكل منعطفا استراتيجيا
بالنسبة لحركة المقاومة الإسلامية حماس وحلفائها من فصائل المقاومة، فيما شكل مرحلة
جديدة في سياسة الاحتلال تقوم على تهيئة المسرح السياسي بتصفية قيادات المقاومة،
وشكل رد الفعل الفلسطيني والعربي والدولي غير المسبوق على اغتيال أي زعيم فلسطيني
سابق مشهداً سياسياً عبَّر عن الحجم والأهمية التي تكتسبها حركة حماس باعتبارها
حركة مقاومة فلسطينية.
كان مشهد العدوان
الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني متواصلا، كما كانت عمليات المقاومة النوعية في
تصاعد وتزايد في التأثير والقوة، واتسمت هذه العمليات في الفترة التي سبقت اغتيال
الشيخ بأنها من النوع الاستراتيجي ولا سيما عملية أسدود المشتركة بين حماس وكتائب
الأقصى، كما تسارعت وتيرة التنسيق بين فصائل المقاومة الفاعلة الثلاث، وتداعت صيحات
وتوجهات لتوحيدها في جبهة واحدة على قاعدة المقاومة، وأفشلت حركة المقاومة كل
الجهود الإسرائيلية والمتعاونة معها للوقيعة بين أبناء الشعب الفلسطيني الذين
أسقطوا مخطط بيريز وشارون بحرب أهلية على خلفية توقيع اتفاق أوسلو، حيث كان بيريز
قد أعلن أن أوسلو تعطي المؤمنين بالسلام من الفلسطينيين الرصاص ليصنعوا الأغلبية
لهم في الشارع، ولكن المراقب يلحظ أن السياسات التي اتخذتها حركات المقاومة فوتت
الفرصة على مثل هذا السيناريو التدميري.
كما تعافت المقاومة من
ضربات إسرائيلية متواصلة، حتى تمكنت من الاستقلال بالسلاح والتشكيلات العسكرية،
وكان قرار إسرائيل باجتياح الضفة الغربية وتدمير السلطة وتنفيذ مجزرة جنين ونابلس
في مارس 2002 وغيرها خطوات استراتيجية هدفت إلى إنهاء المقاومة ومنع تطورها، لكن
الواقع شهد تصاعد المقاومة نوعياً وتزايد تلاحمها وتأييدها في الشارع، حيث ارتفع
عدد القتلى اليهود خلال الستة شهور التالية إلى 194 قتيلاً نتيجة لعمليات استشهادية
واشتباكات مسلحة، ولم يُجْدِ احتلال الضفة بالكامل والقيام باعتقال الآلاف، وقتل
الناشطين والضغط على السلطة والتشويه الإعلامي لعمليات المقاومة ومساواتها بالأعمال
الإرهابية إثر الحرب الأميركية على الإرهاب التي شنتها بعد أحداث الحادي عشر من
سبتمبر 2001.
وعلى ذلك فإن تصاعد
المقاومة وتزايد اللحمة الوطنية الفلسطينية توحداً، وفاعلية عمليات المقاومة أمنيًا
وعسكرياً، وقدرة المقاومة على ضبط إيقاع حركة الشارع الإسرائيلي، دب الرعب في قلوب
قيادات الكيان الإسرائيلي نفسها، وجعلها تستشعر الفشل تلو الآخر برغم كل ما تقوم به
من اختراقات للمواثيق الدولية تسبب لها الضرر الأخلاقي والدولي، باستثناء الحماية
الأميركية العمياء لإسرائيل وممارساتها، فظنت أن قتل القادة من الصف الأول
والمنظرين والموجهين السياسيين والروحيين سوف يسدد ضربة للمقاومة على المدى
الاستراتيجي كما روج لها الإرهابيون في الحكومة الإسرائيلية صبيحة اغتيال الشيخ
ياسين.
فشلت سياسة الاغتيال
للقادة الفلسطينيين في إثبات جدواها مع بواكير انتفاضة عام 1987، خلافا لما كان
عليه الحال قبلها، فازدادت جذوة المقاومة واتسع التأييد لها، وساد الإحباط واليأس
فريق التسوية السياسية العربي والفلسطيني مرات ومرات، مما جعل الجانب الإسرائيلي
يستشعر فشل برنامج طويل نفذه بالإرهاب والتهديد والضغوط والاختراقات والعملاء
لتطويع الشارع والقادة العرب والفلسطينيين بهدف القبول بالمنطق الإسرائيلي في
التسوية السياسية لقضية فلسطين.
لقد شكل اغتيال الشيخ
ياسين واحدة من التكتيكات الإسرائيلية الفاشلة في ضرب المقاومة وتحجيمها وتدمير
معنوياتها، فقد أبطل الاغتيال محاولة السلطة لبسط السيطرة على المقاومة المسلحة في
قطاع غزة تحت الضغوط العربية والدولية والإسرائيلية، كما أحبط محاولات الولايات
المتحدة الرامية لإشاعة جو اليأس والإحباط في الشارع العربي للقبول ببرنامج الإصلاح
الأميركي بديلاً للواقع العربي القائم، كما أحبط الاغتيال محاولات الوقيعة بين
فصائل المقاومة، إذ عجل بتوحيدها وتزايد وتيرة تنسيقها، أي أن عملية الاغتيال ضد
شيخ الانتفاضة المقعد لم تزدها إلا تماسكاً وإصراراً، ووسعت دائرة تأييدها وأحرجت
برنامج التسوية وفريقه، وأربكت المجتمع الدولي، ورفعت وتيرة التخوفات من أعمال
العنف ضد المصالح الغربية، رغم أن المقاومة الفلسطينية تتبع استراتيجية ثابتة بعدم
القيام بأي عمليات إلا ضد الاحتلال وداخل فلسطين فقط.
وبرغم أن عملية الاغتيال
أحبطت محاولات اليسار الإسرائيلي لوأد حكومة شارون مؤقتاً، غير أنها بررت اندلاع
تيار جديد من أعمال المقاومة ربما تسبب بأذى استراتيجي للكيان الإسرائيلي أكثر من
ذي قبل، وتعتبر الردود المحدودة الأولية لحركات المقاومة إفشالاً للتحليل
الإسرائيلي الذي توقع سيلاً من العمليات الانتقامية المباشرة وخسارة المئات من
الإسرائيليين، وأبقت الباب مفتوحاً على مستقبل مرعب لهم، أي أن المدى القريب كان
هادئاً نسبياً، فيما يحمل المدى البعيد الأنباء التي قد لا تسر شارون وآماله، والتي
قد لا يسعفها إرسال فرق الموساد للعمل في الساحة العربية ضد قيادات فلسطينية في
الخارج.
تداعيات الاغتيال على حركة حماس
قبل اتضاح أي مؤشرات
سياسية مهمة لاغتيال الشيخ ياسين، شرع الإعلام الإسرائيلي بترويج الإشاعات
والتوقعات حول انقسام حركة (حماس) وضعفها، على قاعدة الداخل والخارج، أو على قاعدة
التشدد والاعتدال، وشرعت بالتخويف من مرحلة تطرف حماس ضد السلطة الفلسطينية، وتنادت
للبحث في برنامج حماس الجديد الذي يتوقع له أن يضرب المصالح الغربية في المنطقة،
ونظَّر الكثيرون لهذه الخلافات التي هدف العدو منها إلى ضرب فصائل المقاومة ووحدتها
الوطنية، ودفع حماس لتغيير استراتيجيتها في المقاومة المسلحة على أرض فلسطين، لكن
الحكمة والتوازن –حسب المراقبين- الذي تعامل به قادة (حماس) مع هذا المتغير
الاستراتيجي في تركيبتهم القيادية فاجأ الجميع وغير اتجاه الرياح.
ويعتقد الخبراء بشؤون
حركة حماس والقضية الفلسطينية أن الشيخ ياسين كان صمام أمان داخلي دائم لحركة حماس
وللفصائل الفلسطينية وللمجتمع الفلسطيني نظراً لما يحظى به من مكانة اعتبارية
وسياسية وتاريخية، وبسبب الكاريزما الخاصة التي يتمتع بها، لكنه كان كذلك جزءا من
حركة الشورى والديمقراطية التي تمارس داخل الحركة ومؤسساتها، ولذلك يمكن القول بأن
حركة حماس فقدت رأياً حكيماً وقائداً فذاً وحكماً عادلاً في صفوفها، لكنها لم تفقد
واقعها المؤسسي، وقد ثبتت صحة هذه الصورة عن حركة حماس حسبما ظهر لنا في البحث الذي
أنجزناه مع الدكتور إياد البرغوثي عام 1996 بعنوان "دراسة في الفكر السياسي لحركة
(حماس)"، فقد سارع قادة حماس وقبل مضي 24 ساعة على استشهاد مؤسس الحركة ورمزها
التاريخي إلى إعلان خليفة الشيخ ومبايعته على الملأ في مشهد ربما هو الأول من نوعه
في تاريخ الحركة، وبينت الحركة أن القائد الجديد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي سيملأ
هذا الموقع في قطاع غزة، وأجمعت قياداتها على ذلك، وأعلن القائد الجديد تجديد
البيعة للقائد العام للحركة رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، لتحسم مؤسسية حماس
وشوراها خياراتها وتوجهاتها، ولتوقف سيل المحاولات المغرضة للفتنة، ولا سيما بعد
تأكيد الحركة في الداخل والخارج على حد سواء وحدتها واستمرارها على السياسات
السابقة نفسها فيما يتعلق بالمقاومة والعلاقة مع السلطة، وعلى الأهداف الاستراتيجية
المتمثلة في المقاومة وتجسيد الوحدة الوطنية الفلسطينية. وبذلك اجتازت الحركة
الامتحان بتفوق، وبقي عليها الاستفادة من التجربة نحو التطوير والتفاعل واستثمار
المتغير لمصلحة النضال الوطني الفلسطيني، لكن الحكومة الإسرائيلية بزعامة الإرهابي
شارون لم يرق لها هذا الفشل في ضرب حماس، فعمدت إلى اغتيال الدكتور عبد العزيز
الرنتيسي بعد ثلاثة أسابيع فقط على اغتيال الشيخ ياسين، وذلك يوم السبت 17/4/2004
في محاولة لكسر صمود الشعب الفلسطيني.
التحول في الشارع لصالح المقاومة
شكل اغتيال الشيخ ياسين
ومن بعد اغتيال الدكتور الرنتيسي مدخلاً جديداً لوحدة النضال والمقاومة الفلسطينية،
وأثبتت فصائل المقاومة الفاعلة أنها موحدة في مواجهة الاحتلال، فقد أعلنت كتائب
الأقصى إصرارها على الانتقام قبل كتائب القسام، وأعلنت تسمية وحدة الشيخ أحمد ياسين
المقاتلة في صفوفها، ونفذت هي والقسام وسرايا القدس علميات مشتركة لاحقة لتؤكد ذات
الاتجاه.
ومن جهة أخرى أعلن الشعب
الفلسطيني دعماً عملياً لخط المقاومة، وامتد ذلك ليشمل الوطن العربي والأمة
الإسلامية، فقد كانت المظاهرات التي شارك فيها مئات الألوف من العرب والمسلمين
والأحرار في العالم تأييداً لما كان يمثله الشيخ والرنتيسي من الصمود والمقاومة ضد
الاحتلال، وليس مجرد احتجاج على انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان التي لم تتوقف يوما
من قبله ولا من بعده. وبذلك انعكس الاغتيال على مزاج الشارع لصالح قوى المقاومة
وبرنامجها، ما تسبب بتراجع شعبية الفصائل غير المقاومة، ورجالات السلطة المصرين على
خط المفاوضات بديلاً لخط المقاومة.
محاولات اعتراضية لحركة التغير
جرت محاولتان اعتراضيتان لهذا التغير في المزاج الفلسطيني والعربي إبان
اغتيال الشيخ ياسين، قام بالأولى رئيس وزراء السلطة وبالثانية فريق من دعاة التسوية
ومعهم عدد من المغمورين في الشعب الفلسطيني.
فقد أعلن رئيس الوزراء
الفلسطيني أحمد قريع في اجتماع للمجلس التشريعي الفلسطيني برام الله وفي معرض
تقديمه لتقريره أمام المجلس عن فترة الثلاثة شهور الماضية أن العمليات الاستشهادية
التي قد تصيب بعض الإسرائيليين في غير حالة الحرب إنما تسببت بتعويق مسيرة النضال
الوطني، وأنها كانت من الأسباب التي استجلبت غضب الولايات المتحدة وأوروبا، ومن ثم
فقد أظهرت الحكومة بمظهر الفشل والعجز، ما تسبب بضرر على المشروع الوطني الفلسطيني،
حيث أثارت هذه التصريحات جدلاً إعلامياً وثقافياً بين النخب بديلاً عن الحوار
والنقاش حول كيفية استثمار المتغير لصالح النضال ضد الاحتلال في المحافل الدولية.
وعلى المستوى نفسه نشر
سبعون فلسطينياً يزعمون أنهم من المثقفين وثيقة وبياناً إعلامياً يدعون فيه إلى
انتفاضة سلمية على الاحتلال، وإلى ضبط النفس، وعدم الانجرار إلى ساحة المعركة
الإسرائيلية بالقيام بردود مسلحة ضد قوات الاحتلال، بل وطالبوا بأن يكون الخطاب
المصاحب لهذه الانتفاضة أيضا سلمياً، بمعنى أنه يخلو من التحريض على أي ممارسة
للعنف في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، حيث كان من بينهم ولأول مرة أمين سر
فتح في غزة أحمد حلس وعباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، ما أثار التساؤل عن
موقف حركة فتح السياسي إزاء المقاومة، ثم إزاء كتائب الأقصى التي يعتقد بأنها ولدت
من رحم حركة فتح، وأثارت هذه المشاركة من الرجلين استهجان الكثيرين لأن بقية
المجموعة اعتادت على هذه التوجهات ولا تلقى لها صدى مهماً في الشارع الفلسطيني، وهو
ما أثار مخاوف المراقبين من أن يكون هذا التحول لدى بعض قياديي فتح بداية انقسام في
الحركة، قد يتبعه انقسام في فصائل المقاومة ذاتها.
لكن تداعيات الحدث عربيا
ودوليا وأممياً برغم الفيتو الأميركي في المرتين، حجَّمت من هذه المحاولات، وأبقت
على الزخم السياسي لصالح فصائل المقاومة، وفوتت الفرصة على أي اقتتال داخلي
فلسطيني، فيما اعتبر استئناف اجتماعات لجنة المتابعة العليا للفصائل الفلسطينية في
غزة لتنسيق مواقفها آلية معقولة لبحث نتائج المتغير بما في ذلك الانسحاب المحتمل
لإسرائيل من معظم قطاع غزة من جانب واحد، وقرأت فصائل المقاومة الرسالة بحكمة
ومسئولية فأجلت عملياتها الكبيرة حتى تستثمر المتغير السياسي والإعلامي، حيث اكتفت
بالقيام بعمليات نوعية تؤكد استمرار المقاومة، وتثير القليل من الجدل السياسي
الفلسطيني، وذلك إلى أن يستنفد الصبر والحكمة أغراضهما وتتبلور وثيقة فلسطينية
مشتركة تخفف من حجم أي خلاف مستقبلاً،
حسب تقدير هذه الفصائل.
التحليل الإسرائيلي الخاطئ والقراءة الأميركية العمياء
يمكن القول إن
التحليل الإسرائيلي القائم على أن الفتنة الفلسطينية الداخلية هي البرنامج
الاستراتيجي الذي يحمي إسرائيل ويصفي المقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية ويضعف
التعاطف العربي والإسلامي والدولي معها لم ينجح في تحقيق حضور مهم له على الأرض.
وأشرنا أعلاه إلى أن هدف اتفاق أوسلو إسرائيلياً، حسب شيمعون بيريز، كان الوقيعة
بين القوى الفلسطينية، ولتتكفل السلطة وأجهزتها الأمنية بقمع المقاومة وتصفية قوتها،
وكذلك عندما ظنت إسرائيل أن اغتيال القادة سوف يكون المدخل لتدمير روح المقاومة
وبنيتها الفكرية التحتية حسب التجربة الأولى لها مع المقاومة الفلسطينية في
السبعينات والثمانينات، غير أن الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987 وانتفاضة
الاقصى عام 2001، وتوجهات فصائل المقاومة الإسلامية وكتائب الأقصى لم تزدها
الاغتيالات والاعتقالات إلا قوة برغم التأثير المؤقت على العمليات وتأخرها وربما
تغير تكتيكاتها، كما زادت عمليات الاغتيال هذه من التقارب بين هذه الفصائل ولم
تدفعها إلى الاختلاف، وزادت من شعبية هذه الفصائل ورجالاتها على حساب رجال التسوية
المحميين باتفاق الجنتلمان.
وبرغم وضوح هذه الرؤية للقارئ الموضوعي
لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني على الأقل منذ عام 1988 وحتى اليوم غير أن القيادة
الإسرائيلية تبتز شعبها وتبتز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عبر تأكيد قوتها
وقدرتها على إنجاز المهمة المطلوبة لحماية أمنها الداخلي والخارجي، وبرغم أنها لم
تفلح في ذلك بعد مضي أكثر من خمسين عاماً على تأسيس الكيان، وترفض إسرائيل بمختلف
قياداتها الاعتراف بحقيقة العجز عن تحقيق الأمن، لكن الإحباط واليأس وتزايد الهجرة
العكسية والانتحار بين اليهود الإسرائيليين يكشف عن هذه الحقيقة، وهي لا تزال تخدع
العالم عندما تروج نفسها بأنها خبير في "مكافحة الإرهاب" وتنفيذ العمليات الأمنية
الخاصة، برغم ما اعتراها من فشل ذريع خلال السنوات العشر الأخيرة.
لقد عكس اغتيال شيخ كبير في السن مقعد على
كرسي متحرك وفي الشارع بين مسجده وبيته مدى الانحطاط الأخلاقي الإسرائيلي من جهة،
والنقص الكبير في المهنية العسكرية والأمنية الإسرائيلية من جهة أخرى، وهي ليست
مفخرة عسكرية بأي مقياس، ولا حتى لعصابات تهريب مخدرات، فكيف بدولة؟ ولذلك يتجه
القادة الإسرائيليون إلى تمنية الإسرائيليين بأن الأمن والأمان سيكون على المدى
البعيد الذي قد لا يعيشوا ليشاهدوه باغتيال أمثال هؤلاء القادة.
وعلى المستوى نفسه تمكنت إسرائيل من تضليل
الولايات المتحدة التي أسلمت موقفها السياسي في المنطقة لإسرائيل، وأعطتها الضوء
الأخضر على الدوام للقيام بمغامرات عسكرية لم تجلب على أميركا سوى الدمار والخراب
والكره، وتقدم الإدارة الأمريكية إسرائيل للشعب الأمريكي بوصفها واحة للديمقراطية
من جهة، وأنها تحارب الإرهاب من جهة أخرى، وأنها تمثل امتداداً للحضارة الغربية وفق
التيار المسيحي اليميني المحافظ المتصهين الذي ينتمي إليه كثير من قادة الولايات
المتحدة من جهة ثالثة، ولأن الولايات المتحدة تستطيع ممارسة الضغط على الدول
العربية لمنع التحول الشعبي نحو مناصرة الشعب الفلسطيني عملياً، فقد أصرت الولايات
المتحدة في هذه المرة كذلك على القراءة الخاطئة، وإن بدى عليها الارتباك للوهلة
الأولى بسبب ردود الفعل الغاضبة غير المتوقعة على المستوى العربي والإسلامي والدولي،
فأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي يمثلان مظلمة شعب مقهور تحت الاحتلال، ويمثلان
الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، حيث لا يقبل أي عاقل مقولة أن لهذا الاغتيال
علاقة بما يسمى بمكافحة الارهاب من بعيد أو قريب مهما زعم الإسرائيليون ونسجوا من
قصص، فشيخ قعيد وطبيب سياسي لا يمكن أن يكونا إلا تمثيلاً للألم والحلم الفلسطيني
في التحرير والاستقلال والعودة.
التحول الاستراتيجي
في ضوء ما ذهبنا اليه
اعلاه من التحليل، فقد أظهرت هذه الاغتيالات بأنها متغير استراتيجي مهم، أعاق جهود
إحياء عملية السلام ومشاريعها، وزاد من تأييد المقاومة فلسطينياً وعربياً، ووسع من
الحضور السياسي والإعلامي لحركة حماس عربياً ودولياً كذلك، وساهم في تشجيع التوجهات
الوحدوية في الشارع الفلسطيني إن على صعيد فصائل المقاومة المسلحة أو القوى
السياسية المختلفة، وأسهم في إحراج موقف السلطة وإضعافه فيما يتعلق بإمكانية لجم
أعمال المقاومة المسلحة، وزاد من رعب المجتمع الإسرائيلي من علميات انتقامية بسبب
مغامرات قادته الإرهابيين، ووفر المتغير فرصة لحماس للتأثير، ربما تكون نادرة، في
سياسات المنطقة وتوجهاتها على الصعيدين الشعبي والرسمي، وأربك الموقف الأوروبي من
وضع حماس على قائمة المنظمات الإرهابية، الذي كان استجابة للضغوط الأميركية حينها.
إذن فقد كانت حياة الشيخ
ياسين والرنتيسي قوة لحماس، وكان استشهادهما تقوية لوجودها ونفوذها وحضورها السياسي
ولحلفائها في المقاومة أيضاً، ومثّل قفزة نوعية في توجهاتها نحو الوحدة والقيادة
السياسية، لعل الأيام القادمة تثبت قدرة قيادة حركة حماس على استثمارها وفق قراءة
دقيقة وصحيحة، وبدعم عربي وإسلامي رسمي وشعبي جاد للجم توجهات الغطرسة والإرهاب
والتطرف الإسرائيلي، ولتحجيم قدرة إسرائيل والولايات المتحدة على التدخل في الشؤون
الداخلية العربية، وذلك رغم التطور الخطير بالموقف الأمريكي السياسي إزاء الدعم
المطلق للتطرف الإسرائيلي، ولضرب الشرعية الدولية وحقوق الإنسان وقرارات الأمم
المتحدة بالحائط في غطرسة وكبر لا يثمران سوى مزيد من السقوط والانحطاط الحضاري حسب
أرنولد توينبي. |
||
|
---|