|
مقال
حصاد
انتفاضة الأقصى في عامين
ومحاولات
الإجهاض الفاشلة*
دخلت انتفاضة الأقصى في 28 أيلول 2002 عامها
الثالث خلافاً لكل التوقعات والأمنيات التي تريد ايقافها، أو تشويه منجزاتها، وقد
شكلت انتفاضة الأقصى حالة متقدمة من الصمود والتضحية عزّ نظيرها، مقابل الحرب
الشاملة التي يشنها الإسرائيليون بقيادة أرئيل شارون، الذي ثبت فشل برنامجه
الحكومي القائم على كسر إرادة الشعب الفلسطيني ومقاومته، بل إن الفلسطينيين تمكنوا
من استلام زمام المبادرة من خلال النموذج المتفرد في المقاومة بكافة أشكالها وخاصة
مايتعلق بالإبداعات الفلسطينية الجديدة.
وأثبتت "انتفاضة الأقصى" أن ثمة
إمكانية واضحة للوصول إلى نوع من التوازن في مجال ردع الاحتلال الإسرائيلي، مع
ملاحظة الفارق الهائل بين أسلحة الدمار الشامل، و الإعلام الضخم، الذي يملكه
الإسرائيليون، وبين الشعب الفلسطيني المسلح بإيمانه في قضيته، وعزمه الكبير،
وسلاحه المتواضع في ظل ظروف جعلت المقاومة تحدد خيارات الإسرائيليين نسبياً أكثر
مما استطاع شارون وجنوده أن يفرضوا رؤاهم المدججة بالمدرعات وطائرات الأباتشي
الأمريكية على الشعب الفلسطيني.
فقد رفعت "انتفاضة الأقصى" من سوية
القوى السياسية الشعبية العربية والإسلامية، وأضعفت بالمقابل نفوذ الحكومات
وأنصارها، بل شجعت على استئناف برامج مقاومة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتطور
الأمر إلى مظهر جديد من مظاهر البعد العربي في مناصرة الشعب الفلسطيني تمثّل ببدء
برنامج مقاطعة البضائع الأمريكية "بوصفها واجباً أساسياً" لدعم الشعب
الفلسطيني ولمحاولة التأثير في سياسة الولايات المتحدة المنحازة أبداً إلى
الإسرائيليين، وتشكل نسبة الاستجابة لهذا البرنامج في بعض المجتمعات العربية ما
بين 40-70% من المواطنين، وهذه هي المرة الأولى التي يمارس فيها العرب والمسلمون
هذه الآلية في إسناد الشعب الفلسطيني.
وفي المقابل فقد جرت محاولات مشبوهة لتطويق
الانتفاضة والمقاومة، مرة بحجة إعادة النظر في الوسائل والآليات المستخدمة فيها،
ومرة بحجة ضخامة الأذى الاقتصادي والاجتماعي الذي أصاب الفلسطينيين، وعلى الرغم من
أن التقويم وإعادة النظر في أي برنامج شعبي أو سياسي منطق بل وواجب لتصحيح المسيرة
الفلسطينية، من حيث مراجعة مسيرة الانتفاضة، وتأثير فعلها، وتراكم منجزاتها، إلا
أنها تثير الشكوك حول نفسها وحول دعاتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية، بسبب أسلوب
ومضمون الطرح الذي يتجاوز عمليات التقويم المنهجية المشروعة والمعروفة، وتذكرنا
هذه المحاولات بأفكار وأقلام وتصريحات ومواقف سادت إبان الانتفاضة الأولى وقبل
توقيع اتفاق أوسلو في أيلول 1993، حيث تمّ التركيز بكثافة على ما جلبته الانتفاضة
من دمار وخسائر على الشعب الفلسطيني، وأحرجت من يسمون أنفسهم بالمعتدلين في
المجتمع الدولي من جانب آخر، حيث زعمت هذه الآراء بأن الانتفاضة تسببت في خسارة
الرأي العام الدولي، إضافة إلى عدم حماسة الرسمية العربية للوقوف إلى جانب
الفلسطينيين، مما دفع هذه الشخصيات وتلك القوى إلى دعم توقيع اتفاق أوسلو الهزيل
مع الكيان الإسرائيلي بوصفه "إنجازاً" للانتفاضة الفلسطينية الأولى، وهو
الأمر الذي أثبتت الأيام لاحقاً أنه كان "إجهاضاً" لمنجزاتها وهدراً
لدماء شهدائها، واستجابة لإغراءات وضغوط الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه الدوليين،
ومغامرة بمصير الشعب الفلسطيني وحقوقه من أجل سراب اكتُشِفَ بعد سبع سنوات أنه كان
الخدعة الكبرى، تماماً كما توقعت النخبة الأكاديمية السياسية الفلسطينية منذ اليوم
الأول لتوقيعه.
وأثارت النتائج المتميزة من حيث الإنجاز
الفلسطيني في ضرب الاحتلال خلال الانتفاضة -على الرغم من حجم الوضع الكارثي الذي
يعيشه الفلسطينيون- أثارت التساؤل عن مكونات الصورة التي تشكلها على الخارطة
السياسية في الوطن العربي في إطار المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، لو سُمح للقوى
الشعبية العربية بإسناد ودعم أبناء الشعب الفلسطيني وحركاته المناضلة دون تحفظ،
ناهيك عن إمكانية مشاركة بعض القطاعات العسكرية والاقتصادية والإعلامية العربية في
هذا الدعم وذلك الإسناد، وهو ما كان كفيلاً بكشف الغطاء عن عدم مصداقية الادعاء
بتفوق الكيان الإسرائيلي، أو عدم القدرة على دحره، كما راج في أعقاب حرب 1967 على
ألسنة وأقلام الزعامات السياسية الرسمية، وبعض المفكرين والقوى السياسية العربية،
وهو ما أدى بالمحصلة إلى نمط من الخذلان أعاق مبادرة الفعل العربي، مما سمح
للإجرام الإسرائيلي أن يتزايد بصورة مرعبة.
ولعل أكثر ما يؤلم الشعب الفلسطيني الذي يضحي
بروحه كل يوم وبعد عامين من الاستفراد الإسرائيلي بالفلسطينيين، هو هذا الصمت
الدولي فضلاً عن العربي والإسلامي، على الجرائم السياسية والاقتصادية والعسكرية
التي بات عنوانها القتل، والتدمير، والاعتقال، والتجويع، بحيث تجاوز الإسرائيليون
كل المحرمات التي نصت عليها العهود والمواثيق الدولية، دون أن يكون لذلك أدنى صدى
لدى الضمير العالمي والمجتمع الدولي، ومع ما يمثله هذا أيضاً من إدانة للعرب من
تقاعسهم عن نصرة ودعم الشعب الفلسطيني بشكل فاعل وحقيقي.
لقد قامت الدنيا ولم تقعد، منذ الهجوم في 11
أيلول 2001 على الولايات المتحدة، ونتج عن ذلك فوضى لا مثيل لها في تحديد
المفاهيم، وتعاطف العالم كله مع واشنطن، دون أن يتلازم ذلك مع لحظة دعم واحدة بحق
الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس شتى صنوف الإجرام ضده
لأكثر من نصف قرن، بل إن الأدهى من ذلك هو محاولة الإسرائيليين استغلال هذه الظروف
لتشويه المقاومة الفلسطينية المشروعة ومحاولة ربطها بما تسميه الولايات المتحدة
"الإرهاب"، وعلى الرغم من فشل هذه المحاولات إلا أن إسرائيل لا تكف عن
ترديد هذه الخزعبلات، دون أن تجد إعلاماً عربياً رادعاً لها، يفضح ممارساتها
اللاأخلاقية والإرهابية ضد الشعب الفلسطيني.
كما عجزت الولايات المتحدة بدورها عن التعامل مع
محنة الشعب الفلسطيني بشكل متوازن،حيث سيطرت عليها عقلية التفرد في قيادة العالم
نحو معاقبة من تعتقد أنهم أضاعوا هيبتها وسطوتها، وأصبحت القضية الفلسطينية ليست
تلك المسألة الملحّة على الإدارة الأمريكية، وهو ما منح الإسرائيليين ضوءاً أخضر
للمزيد من الإرهاب بحق الفلسطينيين، وبات التأجيل عنوان المرحلة الحالية لأي حلول
يمكن التفكير بها، وذلك إلى حين انتهاء انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي
في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2002 القادم، والذي يتوافق ايضاً مع غياب أي ضغوط
أوروبية فعلية على الجانب الإسرائيلي تساهم في وقف مأساة الشعب الفلسطيني.
وقد أشارت الدراسات والتقارير والتحليلات
الموضوعية والمنهجية الدولية والعربية بل وحتى العديد من التقارير الإسرائيلية إلى
أن المقاومة والانتفاضة الفلسطينية نجحت في ضرب الكيان الإسرائيلي بشكل غير مسبوق،
ونتج عن ذلك تراجع أصوات الداعين إلى التسوية مع إسرائيل أو التعايش معها، بل أبقت
بعض الأطراف العربية على علاقات باردة معها، مع محاولات الاحتجاج على ذلك بأنها
تستخدم هذه العلاقة للتخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني، مما يثير الشكوك حول
امكانية بقاء عملية السلام بقواعدها القائمة، ويعيد الاعتبار لبرنامج وتوجهات
الذين يقولون بأن أحد عشر عاماً من "عملية السلام" قد انهارت، وباتت
تبحث لها عن قواعد جديدة بسبب الإصرار الفلسطيني الشامل من قبل كل الفصائل بلا
استثناء على ديمومة الانتفاضة والمقاومة كخيار استراتيجي لدحر الاحتلال الإسرائيلي،
وهو ما أشار إلى تراجع رهان التسوية لدى الشارع الفلسطيني والقوى الفلسطينية، مما
أدى إلى عزل بعض رجالات السلطة الفلسطينية المصرّين على تمسُّكهم بالتسوية مع
إسرائيل رغم تخلي الأخيرة عن هذا الأمر بصورة كاملة.
ويتسائل الشارع الفلسطيني والعربي عن مدى إدراك
القوى السياسية العربية، والرسمية العربية، القوى الفلسطينية والرسمية حجم هذه
التغيرات التي سُطِّرت على الأرض المقدسة بدماء ودموع وآهات الشهداء والجرحى
والأطفال والنساء؟ وهل يمكن تحقيق برنامج محدد يعمل على أساسه جميع الراغبين
المخلصين لخدمة قضية فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي؟ وإذا لم تكن هنالك ثمة
إجابة، فإن السؤال المنطقي الذي يفرض نفسه، إلى متى يستمر الإرهاب الإسرائيلي بحق
الشعب الفلسطيني دون رادع ؟.
وبالتالي يثور في هذا المقام سؤال مهم، وهو ما
الذي تخبئه الأيام ويتفاوض عليه هؤلاء المعتدلون العرب من وراء الكواليس مع
أصدقائهم في الطرف الآخر من معادلة الصراع؟ وهل ستتكرر التجربة المحزنة والمأساوية
السابقة أم أن الوعي والإدراك الفلسطيني أولاً، والعربي ثانياً على مستوى القوى
الشعبية سيحول دون ذلك بحيث يقوم هؤلاء -دعاة التسوية- بإجهاض منجزات انتفاضة
الأقصى، وتضيع القضية الفلسطينية من جديد بين أقدام المفاوضين، ومشاريع التنازلات
المدعومة إقليمياً ودولياً.
محصلة القول، إن انتفاضة الأقصى هي التي قادت
إلى الحوار الوطني الأخير بين الفصائل الفلسطينية التي تشهد تلاحماً ميدانياً في
المقاومة والصمود، وهي التي غيرت معادلات وقواعد الصراع مع إسرائيل، وأحيت برنامج
المقاطعة والمواجهة والعزل للكيان الإسرائيلي، وأفشلت محاولات دمجها في المنطقة
العربية، وهي التي كشفت عمق الهوة بين الجماهير العربية والإسلامية وحكوماتها،
وخضوع أولئك للضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
وهي التي دفعت النخب المثقفة إلى إعادة النظر
باعتمادها على الشرعية الدولية حيث أنها لم تعد محطّ تطبيق عادل، ولا تصلح في ظل
موازين القوى القائمة كمرجعية لتحصيل الحقوق الفلسطينية، حيث أنها تخضع للقوة
والهيمنة الأمريكية المتحالفة مع إسرائيل استراتيجياً، مما شجع هذه النخب على
إعادة النظر بفلسفة العلاقات الدولية ومدخلاتها فيما يتعلق بقضية فلسطين مدعومة
برأي عام فلسطيني وعربي لا يعطي هذه الشرعية أي ثقة ومصداقية من الأساس، ونخص
بالذكر أهمية تفعيل العلاقات المصلحية العربية مع أوروبا وروسيا والصين كسبيل
لإضعاف حجم الاندفاع الدولي وراء مغامرات الإدارة الأمريكية في وضع مستقبل الأمن
والسلم العالمي بين يدي المتطرفين والإرهابيين الإسرائيليين، إضافة إلى العمل على
تفكيك التحالف القائم بين المصالح الأمريكية والإسرائيلية من جهة، وبين القيادات
السياسية الأمريكية ورأس المال واللوبي الصهيونية في الولايات المتحدة من جهة
أخرى. |
||
|
---|