|
تحليل
الانتفاضة غيرت المعادلة
لا تزال انتفاضة الأقصى، الانتفاضة الفلسطينية
الثالثة منذ العام 1987، تشكل مظهراً أساسياً من مظاهر التحولات والتفاعلات
السياسية في المنطقة، وبرغم مرور أكثر من عشرين أسبوعاً على اندلاعها غير أنها لا
تزال تحمل القدرة على تغيير قواعد ومكونات الصراع العربي-الإسرائيلي، بل وتشكل
محددات جديدة تصب في صالح الحق العربي الفلسطيني حيال أي توجهات مستقبلية لإعادة
رسم خرائط المنطقة السياسية.
لقد شكلت هذه الانتفاضة
أداة أساسية في إشعار قوات الاحتلال بالثمن والعبء الذي تحمله الكيان الصهيوني
جراء احتلاله وعدوانه ضد الشعب الفلسطيني، وهي في ذات الوقت تملك القدرة الفائقة
على تحمل التضحيات بالشهداء والجرحى والمعوقين، وتحمل الحصارات الاقتصادية،
ومواجهة الممارسات الإرهابية الصهيونية، ومثلت رافعة وغطاءً وحضناً في وقت واحد
لمقاومة الاحتلال بمستوى نوعي ومكثف ومتعدد المستويات لم تشهد له مراحل الصراع
السابق مثيلاً، مما أعاد من جديد الاعتبار للمقاومة بوصفها خياراً واقعياً، وأن
الفصائل الإسلامية وبعض الوطنية تمتلك الإمكانات لإيقاع الخسائر الفادحة في صفوف
الاحتلال وإفقاده القدرة على المبادرة في الميدان إلا من الإجراءات الوحشية
الهمجية ضد المدنيين، وهو ما أعاد صورة إسرائيل الإرهابية المحتلة المعتدية
المتمردة على الشرعية الدولية إلى سدة الإعلام العالمي من جديد، وذلك برغم مرور
تسع سنوات ونيف على مسيرة التسوية السياسية التي خدمت إسرائيل إعلامياً وعسكرياً
واجتماعياً واقتصادياً على مختلف الصعد، ما ينذر بإمكانية إعادة مكونات الصراع إلى
ميدان المجابهة، وهو ما كان من الخيال لدى مئات الكتاب والسياسيين العرب
والفلسطينيين والإسرائيليين قبل اندلاع الانتفاضة في 29 أيلول/سبتمبر 2000، أي أن
انتفاضة الأقصى أصبحت نقطة التحول الأهم في ميدان الصراع وادواته، وفي ظل تشكيل
قيادة موحدة للقوى الإسلامية والوطنية لتوجيهها فقد عاد الموقف السياسي الفلسطيني
الفصائلي إلى المربع السابق لاتفاقات أوسلو، وهو ما مثل جرس انذار حاد للادارة
الأميركية ولقيادات الكيان الصهيوني، ومثَّل في نفس الوقت متنفساً وفرصة لمراجعة
الحسابات لدى الأطراف العربية والفلسطينية المختلفة التي ما فتئت تجزم باستحالة
مواجهة إسرائيل، وتشيع أن خيار السلام هو الخيار الاستراتيجي، وأن الحرب والمواجهة
العسكرية أصبحت من خرافات الماضي.
إن
تناول انتفاضة الأقصى ببعدها الإنساني فقط، وبرغم أهميته عالمياً، إنما يضعف قدرة
الأمة على الاستفادة من زخمها وقدرتها التغييرية في مكونات الصراع وأدواته، كما
أنه يجهض إنجازاتها السياسية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، خاصة ما يتعلق منها
بتكبيد الاحتلال ثمناً باهظاً لممارساته لم يدفع مثله في بعض الحروب
العربية-الإسرائيلية الفاصلة، وإنما ينبغي التركيز على هذه الانتفاضة بوصفها
متغيراً أساسياً في معادلة توازن القوى وتوازن القدرة على التحمل والصمود، وتوازن
الرعب بين الطرفين الأساسيين في الصراع، وهو ما يجعل من دراستها والتعمق في
الفلسفة التي تتخلق في رحمها لإدارة الصراع، والبحث عن استراتيجية متكاملة
لبرنامجها سواء في الأعمال المدنية او ما يدعمها من الأعمال العسكرية، واجباً
وطنياً وقومياً وإسلامياً على حد سواء.
إن
النظرة السطحية التي يبديها البعض إلى هذا المتغير الجديد بوصفه وسيلة لتحسين شروط
التفاوض في ظل اتفاق أوسلو المختل لصالح العدو إنما يهرب من استحقاقات هذا المتغير
ونتائجه وتوجهاته المستقبلية القائمة على طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال بالقوة
الانتفاضية والعسكرية في آن واحد، مماثلة لتجارب الشعوب الحية في العالم وآخرها
تجربة تحرير الجنوب اللبناني، حيث أن مثل هذه التوجهات تفترض توطين النفس على
التحمل والصبر بعيداً عن الامتيازات والإطراءات الدولية والإسرائيلية وغيرها،
وبرغم حضوره مثل هذا التوجه لدى العديد من الأطراف العربية والإسلامية غير أن
اطرافاً أخرى مهمة أيضاً وذات ثقل سياسي رئيسي تبدي انزعاجاً واضحاً إزاء هذا
التحول والتغير " المنفلت" من عقال الاستسلام للنظام العالمي الجديد،
والذي لا يخضع لمنطق المساومات السياسية، والذي سيعمل في حال نجاحه على كشف زيف
ثقافة سادت لعقد كامل تدعو إلى الواقعية عبر الاستسلام للبرنامج الصهيوني باغتصاب
فلسطين، وتصفية قضيتها، وقبول إسرائيل عضواً فاعلاً في المنطقة على الصعيد السياسي
والاقتصادي والأمني. وبعد إن هذا التباين في النظر إلى متغير الانتفاضة الجديد
والذي ميزها ايجابياً عن الانتفاضة الكبرى عام 1987 سوف يؤثر على القدرة
الفلسطينية في فرض الانسحاب الإسرائيلي قسراً من الناحية السلبية، ولئن كانت
الأطراف المستفيدة من الواقع القائم أو المتخوفة من استحقاقات المتغير الكبيرة
بوصفه برنامجا كفاحياً ونضالياً لا ترغب في المشاركة الميدانية إلى جانب الشعب
الفلسطيني بقواه المجاهدة الحية فلا أقل من أن تعطى هذه القوى الدعم الاعلامي
والمالي والغطاء السياسي والفرصة الكاملة لإثبات هذه القدرة وتحقيق الإنجاز، كما
دعمت برنامج التسوية إعلامياً وسياسياً ومالياً لعقد كامل، وهو لا زال يراوح مكانه
إزاء الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
إن
الفهم العربي والإسلامي لطبيعة المتغير ومكوناته وانعكاساته المختلفة يمثل الفهم
الأكثر دقة وواقعية من الفهم الدولي الذي تتربع على عرش القيادة فيه الإدارة
الأمريكية والشركات الأمريكية العابرة للقارات، والتي تعتقد أن وجود إسرائيل
وأمنها مصلحة استراتيجية، وهو ما يتناقض تماماً مع أي موقف عربي حتى من قبل الدول
التي وقعت اتفاقات أو تفاهمات مع الدولة العبرية، ولذلك فإن ثمة مسئولية كبرى تقع
على كاهل القوى الشعبية العربية والإسلامية التي فرضت الانتفاضة على القمتين
العربية والإسلامية، وفرضت تغيير لهجة الخطاب السياسي العربي، بل وتجميد التطبيع
مع الكيان الصهيوني على برنامج الرسمية العربية، إن عليها واجباً في بلورة رؤية
عربية إسلامية متكاملة على صعيديها الرسمي والشعبي لتأديب إسرائيل وإعادتها إلى
حجمها السياسي الطبيعي، بعد أن ظنت أنها دولة عظمى في المنطقة، تتحدى وتملي ما
تشاء على الجميع، وتعد هذه الانتفاضة وأعمال المقاومة الموازية لها فرصة تاريخية
لتصحيح الإعوجاج السياسي الذي تشكل على الأرض في عقد التسعينات رغماً عن الإرادة
والقرار العربي أو الإسلامي في ظل اختلال كامل لموازين القوى الاستراتيجية لصالح
المشروع الصهيوني مرحلياً.
إن
التوجهات الإسرائيلية لدى الحزبين الكبيرين العمل والليكود تجاه التعامل مع
الفلسطينيين بوصفهم مجموعة من الإرهابيين ومثيري الشغب الذين يجب ضبطهم بالأمن
والقوة والإرهاب والاعتقال، وقتل أطفالهم ونسائهم، وتدمير منازلهم ومزروعاتهم،
بوصفها أدوات ووسائل مقاومة للاحتلال ، وتحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى
كانتونات محاصرة في محاولة للخنق الاقتصادي والتجويع، ومنع وصول المساعدات الطبية
والإنسانية إليهم، ومنع حركتهم الداخلية ، إنما تشكل عوامل تفجير إضافية، وعوامل
تحفيز لتصعيد الانتفاضة وتأكيد مشروعية المقاومة، بل هي المدخل القديم الجديد
لتحولات معادية للمشروع الصهيوني في الأمة العربية والعالم، وفي ظل العقلية
الإرهابية الصهيونية العنصرية المتعصبة التي تحكم الكيان العبري تحت أي من الحزبين
فإن إمكانات الاستقرار والتسوية أصبحت ضعيفة الاحتمال.
إن
عوامل الصراع الفاعلة المتمثلة: بالبعد
الديني في القدس ، والوطني في الأرض الفلسطينية، والإنساني في التشتت الفلسطيني،
والسياسي في حرمان شعب كامل (8,5 مليون) من تقرير مصيره، لا تزال ذات العوامل التي
اندلع الصراع أساساً بسببها منذ عام 1948، وإن مسيرة التسوية السياسية وخلال سنوات
الصراع الطويل غيرت فقط شكل وقواعد الصراع مؤقتاً، لكنها لم تتمكن وبعد مرور عشر
سنوات على انطلاقها في مدريد عام 1991 من التوصل إلى تسوية أو خلق واقع ينزع فتيل
الصراع والمواجهة .
إن
خيار الرحيل لقوات الاحتلال هو الخيار الأمثل والاستراتيجي، والذي إن لم يتمكن
باراك وبيريز وشارون من استيعابه مبكراً فسيكون مستقبلهم السياسي داخل الكيان
الصهيوني مجهولاً عندما يدرك الإسرائيليون أن قياداتهم إنما تعمل وفق بوصلة التطرف
والإرهاب والعنجهية دون إدراك لطبيعة المتغيرات ومكوناتها وقدراتها العملية، ولعل
في:
ودعوة رابين لتسليم قطاع غزة في ظل انتفاضة 1987 إلى أي طرف عربي مثالاً حياً على الهروب من جحيم المقاومة في جنوب لبنان وقطاع غزة والشريط الجنوبي المحتل ما يشكل أدلة عملية على صحة هذا الاستنتاج.
* جواد الحمد، مجلة دراسات شرق أوسطية العدد
(14)، شتاء 2001 . |
|
|
|
---|