|
تحليل
التعايش الحضاري
بين الادعاء والتطبيق
قراءة مقارنة بين أوروبا والوطن العربي*
يسود الحوار
الأكاديمي والدبلوماسي العربي الإسلامي من جهة والغربي من جهة أخرى ما أطلق عليه
بتعايش الحضارات أو التعايش الحضاري على اختلاف في المفهوم، وتجري حوارات موسعة
بين النخب المثقفة والمتدينة في العالم الإسلامي والغرب فيما عرف بالحوار
الإسلامي-المسيحي أو الغربي-الإسلامي أو الغربي-العربي.
وبرغم العبارات
الإنشائية المطاطة التي تخرج بها توصيات وخطابات وبيانات هذه المؤتمرات والتي تؤكد
أنه لا وجود للمشكلة، وأن ظواهرها فقط سطحية وعابرة، غير أن هذه المؤتمرات تقفز
كثيراً على الواقع الإحصائي والدراسات الاجتماعية لماهية ومكونات هذا التعايش.
فعلى صعيد العالم
الإسلامي بشكل عام والعربي بشكل خاص تظهر زوبعات الاضطهاد للأقليات العرقية
والدينية بافتعالات لا أساس لها من الصحة، وبتعميمات مطلقة على حالات فردية شاذة
ينكرها المجتمع وتعالجها السلطات القضائية بالقانون، فيما يقوم النظام السياسي
والقانوني في الدول الإسلامية على أساس هذا التعايش مع الأقليات العرقية والدينية
في العالم الإسلامي كله، وتتمتع هذه الأقليات في كل الأقطار العربية والإسلامية بكامل
حقوق المواطنة المدنية والدينية على حد سواء، كما يتمتع بعضها بنفوذ مؤثر وأساسي
في الاقتصاد القومي، بل وفي مؤسسات صناعة القرار أو المؤسسات الأمنية، ولا يسمح
المجتمع والسلطات الحاكمة في بلدان العالم الإسلامي بالاعتداء على حقوق هذه
الأقليات المؤكدة بالقانون، ناهيك عن الحساسية المفرطة أحياناً تجاه ممارسات بعض
المواطنين المسلمين غير اللائقة تجاه أي فرد من أفراد هذه الأقليات ما يدفع
السلطات لتضرب بيد من حديد لوأد أي فتنة عرقية أو طائفية.
لكن القوى السياسية
الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبعض المؤسسات الفكرية والدينية فيها لا تلبث
تفتعل المشاكل، وتضخم بعض الوقائع برغم معالجتها بعدالة من قبل الدول الإسلامية
وهي بذلك إنما تستهدف ممارسة الضغط المستمر على الدول الإسلامية والعربية من جهة،
ومستجيبة للضغوط الصهيونية التي تهدف إلى توسيع الشقة والخلاف والعداء المستمر بين
الغرب والعالم الإسلامي إلى حد التهديد بإشعال الحروب والمقاطعة من جهة أخرى،
والتي تهدف إلى تشجيع الغرب على الاستمرار في دعم المشروع الصهيوني ودعم إسرائيل
كحليف استراتيجي لا غنى عنه لمواجهة الخطر الدائم المستمر المزعوم من دول العالم
العربي والإسلامي المختلفة وفي أي قارة كانت.
ويمكننا بكل دقة
اتهام التوجهات السياسية والاستراتيجية الغربية بأنها معادية دون وجه حق، وذلك
باتساع ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
وعلى النقيض من ذلك
فلا يزال ملايين المسلمين والعرب يعيشون في الولايات المتحدة، وكندا وأوروبا ودول حليفة
لأي منها لا يتمتعون بحق الاعتراف بوجودهم، ولا بحق السعي لنيل وحفظ حقوقهم
المدنية والدينية، ولا تراعى هذه المسائل ليس من قبل العنصرين المتطرفين دينياً أو
عرقياً من المجموعات الجديدة، ولكن من قبل السلطات السياسية والأجهزة الأمنية التي
تقوم على مراقبة تطبيق القانون الذي يفترض فيه أن يحفظ العدل .
وتشير آلاف القصص
التي يرويها أفراد هذه الجاليات عن ممارسات الشرطة، ودوائر الهجرة، والأحزاب ضدهم
كأفراد وكجالية، حتى تتبنى زوجة رئيس دولة أوروبية المرافعة ضد طفلة تبلغ من العمر
13 بدعوى طردها من المدرسة لأنها اختارت أن ترتدي غطاء لرأسها .
فيما لا تطرد أي
فرنسية أو فتاة من أي أقلية أخرى عندما تلبس القلنسوة الهندية مثلاً، أو اللباس
الياباني أو الصيني أو غيره، ما يشير إلى البعد الديني المتطرف وراء هذه السلوكيات
غير الحضارية .
ويتحدث أبناء الجالية
في فرنسا بالذات عن حجم الإهانات التي تلحق بالمسلمين يومياً وحجم الازدراء
والاحتقار الذي يلاقونه من مختلف دوائر الدولة، كما ينظرون بعين الشك والاتهام إلى
تجاهل رئيس الدولة لأعيادهم فيما هو لا يتجاهل أعياد المسيحيين واليهود من
الفرنسيين.
هذا ناهيك عن منع
تطبيق أي أحكام دينية تتعلق بالأحوال الشخصية الخاصة بالجالية المسلمة، مثل أحكام
الطلاق والزواج وأحكام الميراث، واعتماد المرجعية الشرعية في حال الخلاف بين أفراد
الأسرة أو العائلة الواحدة .. الخ .
فكيف يدعي الغرب
بالتعايش الحضاري وهم لا يتحملون فتاة مسلمة ترتدي غطاء الرأس في المدرسة، لتميز
بين التزام زيها الخاص وبين نيل التعليم، وأي إهانة وجرم وتسلط وعنصرية وتطرف
يمثله هذا السلوك .
أما على صعيد
الممارسات الفردية فقد أصبحت إهانة العرب والنظر إليهم شزراً، بل واتهامهم
بالإرهاب والتطرف لمجرد التزام السلوك الديني أو التقاليد العربية تمارس في
المطارات كما تمارس في مراكز الشرطة، تماماً كما تمارس في صفوف الدرس والجامعات
والمدارس، إنها ثقافة "العداء الحضاري" التي يسعر نارها التطرف والتعصب
اليميني والعنصري من جهة وتنزعها الدعاية والأدوات الصهيونية من جهة أخرى في بلاد
أوروبا وأميركا.
ولذلك فإن الدراسات
الغربية تتناول العالم الإسلامي كله كمصدر للخطر برغم وجود حكومات صديقة وحليفة له
في كثير من دوله، فيما تعتبر إسرائيل جزءاً منها، برغم ما يكنه اليهود
والإسرائيليون بشكل خاص من ازدراء واحتقار للأوروبيين وحقد عليهم بحجة ما تعرضوا
له من اضطهاد على أيديهم جميعاً، وعلى يدي النازية حسب زعمهم بشكل خاص!.
إن هذه مفارقات تستحق
التوقف حتى تحرر بصوت عالٍ ومسموع ، خاصة في ظل تشجيع المثقفين والساسة العرب على
عدم تناول هذه المسائل لأن لنا مصالح اقتصادية وسياسية مع هذا الطرف أو ذاك، مما
جعل الإعلام العربي "المهاجر" في فرنسا مثلاً يخلو من تناول هذه المشكلة
بجدية، ولا يثير الضجة اللازمة في صفوف القراء العرب، كما يخلو الإعلام العربي
المسموع والمقروء من تناول هذه المسائل سواء المهاجر منه والمواطن لا فرق! إن حضارتنا هي حضارة التنوع والاستيعاب، وحضارتهم حضارة الطرد والعنصرية، وعلى أقلام العرب والمسلمين حيثما كانت أن تستعد لإبراز مفهوم التعايش الحضاري الذي تربينا عليه، وتنتقد وبقوة ثقافة العداء الحضاري التي تتربى عليها أجيال الشباب في أوروبا وأميركا والقائمة على نفي الآخر المسلم والخوف منه بوصفه مصدر الخطر والإرهاب والتطرف، مما يجعل ممارسة السياسة الغربية معادية لمصالحنا ولحضارتنا ومتحالفة مع أعدائنا أياً كانوا خاصة مع الحركة الصهيونية وصنيعتها إسرائيل.
* جواد
الحمد، الدستور 4/4/2000 . |
||
|
---|