أعلى الصفحة
التقرير العلمي
مقدمة
اندلعت المواجهة الأخيرة في معظم الأراضي الفلسطينية إثر
انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في القدس، وإجراءاته التهويدية
التي تصاعدت في شهر رمضان باعتداءات الشرطة الإسرائيلية على
المقدسيين في باب العمود،
والمواجهات التي اندلعت بين
شباب القدس والمستوطنين رداً على استفزازاتهم، ثم المحاولات
الإسرائيلية في حي الشيخ جراح لتهجير سكانه الفلسطينيين منه
قسرياً لصالح المستوطنين اليهود، وصولاً إلى اقتحام الشرطة
الإسرائيلية للمسجد الأقصى المبارك صبيحة 28 رمضان، وقمع
المسلمين المصلين فيه، واستخدام العنف الشديد في ذلك، ما أدى
إلى إصابة المئات منهم، تمهيداً لتنفيذ مخطط اقتحام آلاف
المستوطنين للقدس في ما يسمى "عيد توحيد القدس" اليهودي، إلا
أن صمود الفلسطينيين وأهل القدس وتنفيذ المقاومة الفلسطينية
لتحذيرها وتدخلها عسكرياً أدى إلى إلغاء هذا الاقتحام، ونشبت
إثر ذلك مواجهة عسكرية بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة
وإسرائيل استمرت 11 يوماً.
وكان للعدوان الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى وحي الشيخ
جراح تداعيات على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وشهد تحولات
لا بد من رصدها وتحليلها، إصافة إلى دراسة الخيارات الفلسطينية
والعربية الممكنة لإدامة مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ودرء
عدوانه المستمر على القدس والمسجد الأقص في ضوء نتائج المواجهة
الأخيرة.
ولذلك عقد مركز دراسات الشرق الأوسط في عمّان ندوة بعنوان
(العدوان الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى 2021، التداعيات
والتحولات)، وشارك فيها من الأردنّ وفلسطين باحثون مختصون
وخبراء في القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي،
ويتناول هذا التقرير أهم الأفكار الواردة في أوراق الباحثين
ومناقشات المشاركين في الندوة.
الإجراءات التهويدية
لمدينة القدس
لمدينة القدس دور وأهمية كبيرة في القضية الفلسطينية، هي تشكّل
مفتاحاً مهماً للحرب أو السلام في منطقة الشرق الأوسط؛ كما
تُعبّر قضية القدس بوضوح عن جميع الأبعاد السياسية والدينية
والتاريخية والمستقبلية الخاصة بالصراع العربي- الإسرائيلي.
وتأتي المشاريع الإسرائيلية المتعاقبة للسيطرة على القدس
وتهويدها وخلق هوية قومية يهودية، وتسعى إسرائيل إلى فرضها
كأمر واقع من خلال بعث الروح الثقافية لدى المجتمع اليهودي
والمتعلقة بالقدس كأساس ديني وسياسي، لتحقيق التماسك داخل
المجتمع، ولخلق واقع ديموغرافي جديد تحاول إسرائيل استثماره في
أي مفاوضات مستقبلية.
ويمكن تلخيص إجراءات التهويد في القدس بقول مؤسس الحركة
الصهيونية هرتزل: "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال
حياً وقادراً على القيام بأي شيء فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً
لدى اليهود وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها قرون".
وتتمثل وسائل تهويد القدس التي تنفذها الحكومات الإسرائيلية
المتعاقبة بالاستيطان وتهجير السكان ومصادرة الأراضي واستخدم
العنف وسنّ القوانين العنصرية وتهويد الثقافة والتربية.
كما تتّسم السياسات الإسرائيلية لتهويد القدس بما يلي:
1-
أنّها تشكل إجماعاً وطنياً على المستوى الحكومي والحزبي
والشعبي الإسرائيلي، ويُنظر لها بأنها تقوي الوحدة الوطنية
الإسرائيلية.
2-
علانية قرارات التهويد وصراحتها ومباشرتها، وتشكيلها لأرضية
نظرية وإدارية وقانونية مهمة تسبق الإجراءات التطبيقية، بعكس
الوضع في بقية الضفة الغربية حيث تُتخذ الإجراءات دون اتخاذ
قرارات.
3-
اعتبار إسرائيل لإجراءات التهويد بأنها مسألة داخلية ولا تنطبق
عليها قواعد القوانين الدولية لأن إسرائيل قامت بضم القدس
واعتبرتها جزءاً من أراضيها.
الفعل الفلسطيني
لمواجهة المخططات الإسرائيلية وحماية القدس
أظهرت المواجهة الأخيرة في القدس والداخل الفلسطيني 1948
والضفة الغربية وغزة صموداً بطولياً
للشعب الفلسطيني، ويعد ذلك امتداداً للنضال الفلسطيني التاريخي ضد الاحتلال
الإسرائيلي على أرض فلسطين، وتدل المواجهة الأخيرة أنه، وبعد
73 سنة من النكبة، ما زال الشعب الفلسطيني يقاوم الاحتلال
ويرفض ممارساته وإلغائه لحقوق الشعب الفلسطيني على أرضه؛ حيث
شهدت المواجهة الأخيرة لأول مرة توحَد الجغرافيا الفلسطينية
والهوية الفلسطينية، وأصبح الجميع تحت مظلة مقاومة الاحتلال
بالوسائل المختلفة الشعبية والعسكرية.
وكان من اللافت تحرك فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، ما
يُعدّ تحولاً في الصراع ومفاجأة للاحتلال لا تقل أهمية عن
التطور الملحوظ لقدرات المقاومة العسكرية في غزة، إضافة إلى
التحرك الشعبي العربي والإسلامي الكبير وتفاعل فلسطينيي الشتات
وأحرار العالم، مما يساهم في بناء الشخصية والهوية الوطنية
الفلسطينية وبعث الروح فيها من جديد.
كما أثبتت مقاومة الشعب الفلسطيني أنها تزداد قوة رغم محاولات
إضعافها في الحروب السابقة، ومن خلال الحصار المفروض على غزة
منذ 15 سنة.
تداعيات المواجهة
على القضية الفلسطينية
يدل التفاعل الشعبي الكبير في القدس والضفة الغربية والداخل
المحتل عام 1948 على أن الإرادة السياسية الشعبية للفلسطينيين
استطاعت حتى الآن إفشال المخططات التهويدية، وأن الكل
الفلسطيني ملتف حول خيار
المقاومة، وكان صمود
المقدسيين رافعة لدور المقاومة، مما جعل خيار المفاوضات وجدواه
في الضغط على إسرائيل في تحصيل الحقوق الفلسطينية مشكوكاً فيه.
وكان للمواجهة الأخيرة دور حاسم في إعادة القضية الفلسطينية
إلى سلّم الصدارة على الساحة العربية والدولية، ورسّخت أهمية
القدس عالمياً وأهميتها بالنسبة للمسلمين، حيث كانت عنواناً
للمواجهة.
وقد هزّت هذه المواجهة صورة إسرائيل، وأكّدت أنها دولة مارقة
على القانون الدولي، وغير جادة ألبتة في تحقيق السلام وتقديم
أي حق للشعب الفلسطيني.
كما أثرت في تموضع وأدوار وأوزان أطراف الصراع، حيث أضعفت موقف
السلطة الفلسطينية وقوّت موقف المقاومة، وعززت دور كل من مصر
وقطر في القضية الفلسطينية.
أما دور الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن فقد برز في
احتواء الموقف وخفض التصعيد والوصول إلى وقف إطلاق النار،
واختلفت في ذلك عن سياسة إدارة الرئيس السابق ترامب وحتى عن
موقف الإدارة الأمريكية إبّان الحرب على غزة عام 2014.
وبانتهاء هذه الجولة تبدو الإدارة الأمريكية غير مستعجلة على
إطلاق مسار المفاوضات واحياء عملية السلام من جديد، لما يبدو
غياباّ عن أولوياتها في الفترة المقبلة؛ حيث يتركز الموقف
الأمريكي الذي عبّر عنه وزير الخارجي الأمريكي في زيارته إلى
الشرق الأوسط عقب انتهاء المواجهة على تثبيت وقف إطلاق النار
في غزة، إضافة إلى طرح القضية الفلسطينية كقضية مادية بتقديم
المساعدات العاجلة للفسلطينيين والمساهمة في إعادة الإعمار، أو
كقضية إنسانية تسعى فيها لتقليل عدد الضحايا المدنيين وعدم
التركيز على السبب الرئيس لهذا الصراع وهو وجود الاحتلال على
أرض فلسطين.
ومن جهة أخرى أثبت العدوان الإسرائيلي على القدس ومواجهة
الفلسطينيين له فشل أهداف مشاريع التطبيع وعدم جدواها ودحض
الادّعاء بأن هذه المشاريع تخدم القضية الفلسطينية وتحقق الأمن
القومي العربي، كما يدل على ذلك عدم وجود أي دور للدول التي
قامت بالتطبيع مؤخراً في منع العدوان على القدس والمسجد
الأقصى.
كما أنّ الفعل الفلسطيني لمواجهة العدوان الإسرائيلي يؤكّد على
أهمية إعادة بعض الدول العربية للنظر في علاقاتها من حركة حماس
التي برزت كطرف فلسطيني مهمّ للغاية في ملفات القضية والصراع
العربي- الإسرائيلي، وأنها لاعب رئيس لا يمكن تجاوزه؛ حيث
امتلكت زمام المبادرة من خلال التدخل عسكرياً والتصدر للدفاع
عن القدس وحي الشيخ جراح.
الخيارات الفلسطينية
لمواجهة العدوان الإسرائيلي
بعد انتهاء المواجهة الأخيرة يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام
مجموعة من الخيارات المتعددة للاستمرار في مواجهة الاحتلال
ومخططاته ومشاريعه على قاعدة جديدة فرضها إنجازهم في هذه
المواجهة، ومن هذه الخيارات إطلاق المقاومة في الضفة الغربية
المحتلة، وطالما أن المناطق الفلسطينية تواجه أشكالاً مختلفة
من الاحتلال، فإن ذلك يتيح أيضاً أشكالاً مختلفة من المقاومة
يُمكن التكامل فيما بينها.
ومن ذلك وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل من قَبل السلطة، وترتيب
البيت الداخلي الفلسطيني وتجديد شرعية المؤسسات، وإعادة بناء
منظمة التحرير لتشمل جميع الفصائل، كما أنه لا بد من استمرار
حالة توحّد فصائل المقاومة وصولاً إلى إطار وطني جامع يزيد من
لحمة الشعب الفلسطيني ويمهّد الطريق لتحقيق المصالحة.
ومن المتوقع أن تقوم المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس، بتطوير
أدائها وخطابها السياسي، مع القيام بحملة علاقات عربية ودولية
لكسر العزلة عنها، فهي بحاجة إلى برنامج دبلوماسي يحقق لها
حضوراً سياسياً على الساحة العربية والدولية يماثل حضورها
الميداني في فلسطين، ويحقق من خلالها مصالح الشعب الفلسطيني
بحق العودة وحق تقرير المصير.
الخيارات العربية
لمواجهة العدوان الإسرائيلي
مع تراجع الخيار العسكري للدول العربية في السياق الرسمي منذ
عام 1973، ودخول كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية
في معاهدات سلام مع إسرائيل، تشهد مواقف وخيارات الدول العربية
تجاه مواجهة اسرائيل في قضية القدس والمسجد الأقصى تباينات
بسبب تعدد المرجعيات السياسية لكل دولة، كما أن حالة التشتت
العربي تنعكس على خيارات الدول العربية تجاه القضية الفسطينية.
ويأتي تحرك بعض الدول العربية محكوماً باتفاقيات السلام التي
أبرمت مؤخراً، حيث لم تأخذ هذه الدول أي مواقف داعمة للموقف
الفلسطيني، وكانت تبدو وكأنها على الحياد.
فيما يبرز دور دولة قطر وعلاقتها مع حركة حماس في سياق سياسة
احتواء الحركة بضوء أخضر أمريكي، حيث تشكل الدوحة حالياً
عنواناً لحركة حماس للتواصل معها دولياً، فضلاّ عن بروز دور
مصر فيما يتعلق بإدارة ملف قطاع غزة من حيث المعابر والإعمار.
لكن نتائج المواجهة تشكّل فرصة لإعادة روح العلاقات العربية-
العربية، وإعادة بلورة مشروع عربي في ظل المتغيرات الجديدة،
للتأكيد على أن الخيار الأمثل للعرب هو بناء القوة الرادعة
لإسرائيل ودعم صمود الشعب الفلسطيني، وتُشكل المعادلة التي
فرضتها صورايخ المقاومة مثالاً يمكن النظر إليه في إدارة
الصراع مع الاحتلال، مع فارق الإمكانات الهائل بين الدول
العربية والفصائل الفلسطينية.
ومن جهة أخرى أظهر العدوان الإسرائيلي على القدس والمسجد
الأقصى، إضافة إلى الفعل الفلسطيني تجاهه، أظهر حالة التحول في
المجتمعات العربية لدى الأجيال الشابة تحت سن العشرين والذين
يشكلون ما نسبته 53% من الشعوب العربية، وبيّن أهمية إحداث
تحول مهمّ في الوعي العام بأهمية القضية الفلسطينية وأهمية
مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، كما عبّر عن تغيّر الرأي العام
العربي والدولي، ودلّ على ذلك حجم ردة الفعل الشعبية العربية
والعالمية، لذلك لا بدّ من انتباه النخب السياسية العربية لهذا
التحول من حيث تقارب خطابها السياسي مع تطلعات الشباب العربي
والتكيّف معها.
خيارات الأردن
لمواجهة العدوان الإسرائيلي
كان الأردن الأكثر تفاعلاً رسمياً وشعبياً في هذه المواجهة،
وكان الشارع الأردني بمختلف مكوناته موحداً بدعم الموقف
الفلسطيني، وكان دوره مؤثراً في تحريك الشارع العربي
والإسلامي، ومع أن تفاعل الأردن مع الحدث كان الأبرز، إلا أنه
لم يقدم الدور السياسي المأمول.
وتبرز أهمية دور الأردن في مواجهة عدوان إسرائيل على القدس
والمسجد الأقصى من الارتباط الشامل بين الأردن وفلسطين
تاريخياً وسياسياً وجغرافياً وديمغرافياً وأمنياً
واستراتيجياً، إضافة إلى المسؤولية التاريخية للهاشميين تجاه
القدس والمسجد الأقصى.
ورغم تحرك السياسة الأردنية ضمن خيارات سياسية وقانونية
واقتصادية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، إلا أن الأردن
يمكنه مواجهة إسرائيل في المحافل الدولية كمحكمة العدل
الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية، ومجلس الأمن، والجمعية
العامة للأمم المتحدة، حيث يمتلك العلاقات والأدوات والأطر
اللازمة لذلك؛ فالأردن ليس مجرد متضامن مع القضية الفلسطينية،
بل هو طرف رئيس فيها، يؤثر ويتأثر، خاصة في موضوع ملفات
اللاجئين والقدس والحدود والمياه.
ولذلك، تشكّل المواجهة الأخيرة فرصة للأردن لتوسيع وتنويع
خياراته السياسية والتحرك في الهوامش المتاحة، وذلك بالانفتاح
على الدول الفاعلة في القضية الفلسطينية، والتنسيق مع تركيا
وقطر اللتين تقدّران الدور الأردني في القضية، وتدعمان الوصاية
الهاشمية في القدس، ومع مصر التي كان لها دور بارز في المواجهة
الأخيرة.
كما يستدعي العدوان الإسرائيلي على القدس والمسجد الأقصى إعادة
تقييم الأردن لعلاقته مع إسرائيل، وإعادة تعريفها على أنها
مصدر تهديد وجودي للأردن، حيث تطمع إسرائيل فيه من حيث تصفية
القضية الفلسطينية على حسابه، لا سيما أن إسرائيل لا تلتزم
بتعهداتها في معاهدة السلام الأردنية- الإسرائلية، ما يحتّم
إعادة النظر كذلك في التنسيق الأمني
مع إسرائيل وإيقاف
المشاريع والعلاقات الاقتصادية واللوجستية معها.
كما أن الأردنّ معنيّ بقوة في رفع مستوى خطابه تجاه القضية
الفلسطينية، والانفتاح على حركة حماس ذات الوزن الكبير في
الشارع الفلسطيني،
وفي التأثير في مسار
الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأن الأردن هو الأولى في
العلاقة مع حركة حماس؛ حيث تتوافق نظرتها للأردن مع مصالحه
العليا، إضافة لتأييدها للوصاية الهاشمية على المقدسات في
القدس، ويُمكن للأردن كذلك أخذ دور رائد في ملف المصالحة
الفلسطينية والعمل على تشجيع كافة الأطراف الفلسطينية، وعلى
رأسها السلطة، على إعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية
وتفعيلها، ما يساهم في تقوية الشعب الفلسطيني وصموده وتحقيقه
لمكاسب تخدم الأردنّ كما تخدم القضية الفلسطينية.
انتهى |