الأستاذ راشد الغنوشي
رئيس
حركة النهضة- تونس
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين،
أحييكم أيها الإخوة والأخوات من تونس الثورة، السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته، وأهنئكم باجتماعكم وأقدّر أهمية هذا
اللقاء الذي أتى في لحظة تاريخية فارقة يقف فيها العالم العربي
الذي أدى استثناء ديمقراطياً من طور إلى طور آخر قد ينقل
العالم كله إلى مرحلة جديدة، وما ذلك إلا بسبب ما تحتله هذه
المنطقة وسط العالم من أثر كبير في صناعة التاريخ.
عندما ظهر الإسلام أول مرة في هذه المنطقة تحوّل العالم الذي
يكتشف طوراً جديداً من التحولات التي تهيئ الشعوب بأن تحدد
مصيرها وأن تتولى أمرها، وتسترد قرارها وثرواتها. ولقد أتى هذا
التحول ليعيد هذه المنطقة إلى قلب التاريخ، وليعيد صناعته
وبناءه، أتى هذا التطور بعد بلوغ مشاريع الإصلاح، إصلاح
الأنظمة القائمة من داخلها، هذا المشروع أفضى إلى نتيجة واضحة
أن هذه الأنظمة غير قابلة للإصلاح لأنها لا تتوقف على آلياتٍ
لإصلاحها، وذلك ما يجعلها تختلف مثلاً عن النظام التركي الذي
رغم الأثر العسكري فيه ولكنه ظل باستمرار واقفاً على آليات
إصلاحية داخلية وذلك بتوفر انتخابات دورية نزيهة ومستقلة لم
تطعن بزيف، بينما الانتخابات في العالم العربي حيث تجري
انتخابات، كلها تقريباً كانت مشوبة بل موصومة بالتزييف، مما
جعل مشاريع الإصلاح من داخل الأنظمة تفضي إلى نهاية تعيسة.
وقد أتى الربيع إثر بلوغ مشاريع الإصلاح نهايتها واليأس من
إصلاح هذه الأنظمة كان من نتيجته الرهان ليس على التدرج في
الإصلاح وإنما القيام بعملية رحيل كبرى فكرية أكثرها، هل هناك
أمل في الأنظمة التي لم تنفجر فيها الثورات هل هنالك أمل بأن
النخب الحاكمة تدرك هذه الرسالة بأن التمويل والتمويه وما تقوم
به من مناورات لم يعد له مكان وأنها بين أمرين إما أن تقيم
إصلاحات كبرى في أنظمتها بما يعيد الثقة بالسلطة للناس أو أن
هذه الموجة من التغييرات سوف تأتي عليها.
أيضاً الربيع العربي أتى إثر بلوغ المشروع الرأسمالي حداً
متقدماً من العجز ومن الارتباك مما يجعله على أبواب الافلاس
مما يجعل هذا المشروع الرأسمالي عاجزاً عن إفساحاته الداخلية
كما كان يفعل سابقاً.
أيضاً أتى الربيع العربي بعد تراكم تضحيات ونكبات كثيرة حلت
بكل القوى السياسية وبخاصة الاسلاميين وهو ما أشعر الإسلاميين
بأن يكونوا أكثر المستفيدين من هذا الربيع العربي من هذه
التحولات بسبب تراكم التضحيات خلال خمسين سنة.
أحسب أن الربيع العربي لم يقف على حدود دولة معينة لأن الأنظمة
العربية متشابهة في فسادها وفي بعد النخبة الحاكمة عن الناس
وفي تحول الدولة إلى احتكارات بل تحول الدولة إلى نوع من
المافيا، مما يجعل كل الأنظمة العربية مرشحة للتحول إما بأن
تُقدم الأنظمة القائمة على جراحات كبرى وإصلاحات للشعب، أو أن
هذه الموجة ستطال الجميع وهي ماضية في طريقها بأن تحدث
التحولات الكبرى المطلوبة.
أحسب أن الإسلاميين وغيرهم من القوى السياسية المرشحة لقيادة
هذا الربيع العربي مطلوب أن تتعلم فن التعايش أن تقبل مبدأ
المواطنة أساساً للدولة، وتوزيع الحقوق والواجبات على أساس
المساواة في المواطنة، أن تقبل النظام الديمقراطي بكل آلياته
دون إقصاء لأي فكرة أو إلى أي طرف، والقبول بحكم صناديق
الاقتراع والتعددية لن تقصي أحد وقبول حقوق الأقليات، أحسب أن
هذه الشروط أساسية.
أن تفهم هذه النخب الجديدة رسالة الشعوب التي من طبيعتها
الاجتماعية الحكم بالعدل والمساواة وهي تريد أن تكون الثروة
مقسمة بعدالة أو تقدم بالوسائل الاجتماعية والسياسية والدينية
والأخلاقية لهذه الثورات حتى لا يكون الربيع العربي سلبياً
يهدم ولا يجني، لأن البناء يحتاج إلى عقلٍ مركّز إلى عقل
يستوعب كل الآخرين، نحتاج إلى إعادة الإجماع إلى أمتنا التي
فقدت لمدة طويلة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عودة للصفحة
أعلى الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------------
الدكتور محمود حسين أحمد
الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين- مصر
هل
أصبح الإسلاميون قريبين من الحكم في العالم العربي أو على
الأقل مشاركين فيه ؟ السؤال يطرح نفسه بقوة خاصة بعد الربيع
العربي فالمراقب لما يحدث في المنطقة العربية يمكنه من ملاحظة
المتغيرات الآتية:
·
في 25 نوفمبر الحالي يتوجه ملايين الناخبين في المغرب لاختيار
أعضاء مجلس النواب وتشير كل استطلاعات الرأي والتحليلات الجدية
إلى أن حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي هو الأوفر حظاً لحصد
غالبية المقاعد وبالتالي تشكيل الحكومة المنتظرة وقيادتها.
·
وفي 28 نوفمبر الحالي يتوجه عشرات الملايين من المصريين في
داخل مصر وخارجها إلى صناديق الانتخابات في أولى مراحلها
لاختيار أعضاء مجلسي الشعب والشورى، وتشير أيضا استطلاعات
الرأي إلى تقدم التحالف الوطني الديمقراطي والذي يتزعمه حزب "
الحرية والعدالة" الذراع السياسية للإخوان المسلمين، للفوز
بالنصيب الأكبر من مقاعد الغرفتين الشعب والشورى.
·
استطاعت تونس أن تجري انتخابات لاختيار " المجلس التأسيسي" بعد
الثورة حيث حصد حزب النهضة الإسلامي وحده 41% من المقاعد ليشكل
الحكومة بعد ذلك.
·
في ليبيا فقد صرح مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني
الانتقالي أن ليبيا بعد ثورة 17 فبراير ستتخذ من الشريعة
الإسلامية مصدراً أساسياً للتشريع.
·
وحركة حماس على الحدود المصرية تحكم قطاع غزة منذ مطلع 2009
بعد اضطرارها لذلك بسبب انسحاب فتح وباقي الفصائل من الحكومة
الائتلافية.
·
أما النظام السوداني فهو نظام إسلامي وإن كان عسكرياً والأمل
كبير في أن يتحول في ظل الربيع العربي إلى نظام ديمقراطي ذو
مرجعية إسلامية.
·
وفي الأردن فإن "جبهة العمل الإسلامي" وهي الذراع السياسية
لحركة الإخوان المسلمين هي الفاعل الأكبر في المعارضة الأردنية.
·
وفي سوريا تبرز حركة الإخوان المسلمين ضمن أهم الفاعلين
السياسيين بين قوى المعارضة الناشطة داخل البلاد وخارجها.
·
وفي اليمن توشك الثورة على تحقيق أهدافها بإسقاط نظام صالح
المستبد وفي القلب من قوى الثورة الإخوان المسلمون في اليمن.
فهل حان الوقت لصعود الإسلاميين لاستلام السلطة أو المشاركة
فيها بشكل فاعل في البلدان العربية وعلى رأسها مصر. أم أن هناك
عدة محاذير يتعين أخذها في الاعتبار منها:
1.
القوى العالمية وعلى رأسها أمريكا لن تقبل برئيس جمهورية أو
رئيس وزراء إسلامي وستتحرك بكل أدوات قوتها الناعمة والصلبة
لإسقاطه وإجهاض تجربته بما سيدخل البلاد في دوامة لا تعرف
نهايتها.
2.
الكيان الصهيوني يعتبر وصول الإسلاميين للسلطة وبالذات في مصر
بمثابة إعلان حرب رسمي عليها ومن ثم فإنه يعد نفسه لمواجهة
عسكرية محتملة مع دول الجوار.
3.
يفترض البعض في حالة وصول الإسلاميين للسلطة تعرضهم للإخفاق
نتيجة قلة المعرفة والخبرة بشئون الحكم رغم صدق نواياهم وطهارة
أيديهم، وإن لم ينطبق ذلك على الإخوان الذين شاركوا في الحكم
في بعض البلدان العربية.
4.
يفترض البعض تعرض الإسلاميين إلى تهديدات من القوى العالمية في
حالة تصدرهم السلطة وأن ذلك سيفقدهم الكثير من المكتسبات التي
تمكنوا من تحقيقها طيلة العقود السابقة. ويستدلون على هذه
الفرضية حدة الخسائر التي حدثت نتيجة تجارب سابقة في السودان
وأفغانستان والجزائر، والحصار الذي ما زال مستمراً على قطاع
غزة.
وللرد على هذه المحاذير ننشر تحليلاً سياسياً لصحيفة
(يو-إس-إيه-توداي) الأمريكية تحت عنوان هل "ينبغي أن يكون
للإسلاميين دوراً في الربيع العربي" جاء فيه:
·
إن القلق لدى البعض في الولايات المتحدة هو أن الأحزاب
الإسلامية والتي تمثل أقوى جناح في مصر وقوة متنامية في تونس
في وضع يؤهلها لكسب السلطة السياسية في الانتخابات المقبلة.
·
إن حدوث الأسلمة السياسية يكون أكثر احتمالاً حين تخفق حكومة
جديدة في تنفيذ وعودها بالإصلاحات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية وليس حين تخوض أحزاب المعارضة الإسلامية
الانتخابات.
وقالت الصحيفة: إن الولايات المتحدة ينبغي أن تساعد على إدراج
الأحزاب الإسلامية في العملية السياسية لكي يتمكنوا من
المشاركة في المسئولية عن نجاح أو إخفاق بلدانهم في الإدارة
والدفاع والشئون الخارجية وعلى الرغم من أن بعض المفكرين في
دوائر السياسة الخارجية الأمريكية يحثون على عزل الإسلاميين
مثل –جماعة الإخوان المسلمين– في مصر فإن هذا النهج من شأنه أن
يأتي بنتائج عكسية في النهاية، فعندما يتم تهميش الجماعات
الإسلامية في صفوف المعارضة فإنهم يصبحون قناة ناجحة للتعبير
عن المعارضة السياسية والمظالم الشعبية وخير مثال على ذلك حركة
"حماس" ففي طوال الفترة التي كانت تمثل فيها حركة المعارضة
استمرت جاذبيتها السياسية في الصعود وهو ما مكن لفوزها في
انتخابات 2006. وبنفس القدر فإن على الولايات المتحدة ألا تخلط
بين الأحزاب السياسية التابعة للتيار الإسلامي المعتدل وبين
الأصوليين الإسلاميين، فالمساواة بين الاثنين ليس فقط أمر
يعوزه الإدراك ولكنه ذو عواقب أيضاً، والتمييز بين المعتدلين
والأصوليين من شأنه أن يمنع الأنظمة الجديدة في الشرق الأوسط
وشمال إفريقيا من اللجوء إلى استراتيجيات البقاء القمعية باسم
محاربة التهديد الإسلامي وهي الكيفية التي ظل بها الكثير من
أسلافهم في السلطة.
وتحت عنوان "الإسلاميون قادمون في بلدان الربيع العربي وهم
شرعيون رغم أنفنا " نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية هذا
المقطع تحت عنوان " المسجد والدولة" جاء في نهايته أن كثيراً
من الإسلاميين يريدون أن يكون الإسلام دين بلدانهم الرسمية،
إنهم يريدون نوعاً من الشريعة الإسلامية لتكون أساساً للقانون
المدني، إنهم لا يحبون إسرائيل ولا يحبون سياسة الولايات
المتحدة الأمريكية، وأمريكا لديها معهم مشاكل رئيسية حيث لا
يمكنها استبعادهم أو تهميشهم لأنهم سيشكلون قوة سياسية مشروعة
ومن المرجح أن يفوزوا في انتخابات حرة.
وللرد على هذه التخوفات والمحاذير نقول:
بأن القول بأن الكيان الصهيوني يعد نفسه ليكون في مواجهة في
حالة وصول الإسلاميين للحكم خاصة في مصر باعتبارها من دول
الطوق فهذا مردود عليه بأن الكيان الصهيوني حريص على أن يظل في
حالة استنفار مستمر تحت هذا الزعم لأن وجوده غير شرعي وغير
مقبول من دول المنطقة ويعتمد على ما يملكه من قوة ودعم خارجي
فضلا عن إنكاره لحق الشعب الفلسطيني وهو بالتالي لم ولن ينجح
في التسويق لإمكانية تعايشه مع العالم العربي طالما أنه يصر
على تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني ويصر على إقامة الدولة
اليهودية على أرض فلسطين.
وافتراض أن وصول الإسلاميين للسلطة محكوم عليه بالإخفاق فهو
مراهنة في غير محلها لأن نظم الاستبداد السابقة لم تقدم
لشعوبها سوى إغراق البلاد في مشاكل لا حصر لها وأن صدق النوايا
وخبرة الإسلاميين في إدارة بعض المرافق المجتمعية كفيل بتحقيق
نوعا من الإنجازات فضلا عن قدرتهم على اكتساب الخبرات اللازمة
ولعل بعض التجارب السابقة رغم ما شابها من بعض السلبيات خير
شاهد على ذلك، بل إن المراهنة على إخفاق الإسلاميين المعتدلين
أو إبعادهم سيدفع الكثير إلى تبني أفكاراً أقرب إلى التطرف
والعنف في العالم العربي والذي ستكون نتائجه أشد فتكا.
وهكذا فإن الإسلاميين في شتى الأقطار العربية يقتربون بصورة أو
بأخرى من تحقيق المشاركة في السلطة ويبدو أن اللحظة الراهنة هي
أفضل الأوقات وأن الفرصة الحالية هي أفضل الفرص لذلك وإن كنا
نرى أن المرحلة تستدعي التريث في التصدي لاستلام السلطة في
الوقت الراهن حتى يتهيأ المناخ الداخلي والخارجي لإزالة كثير
من التخوفات التي في غير محلها حول كيفيسة التعامل مع الإسلام
المعتدل.
ومن الجدير بالذكر أن هذا التخويف المتكرر من الإسلاميين غير
مبرر حيث أن الشريعة الإسلامية تحمل من القيم والمباديء التي
يجعلها صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان وهي رسالة عالمية للناس
كافة، وفيها يتحقق العدل والحرية والسلام والمساواة بين الناس
جميعا، وفيها قارورة الدواء لكل الأمراض التي تعاني منها
البشرية، والتطور والنهضة والرقي والتعاون بين جميع البشر على
اختلاف ألوانهم وعقائدهم لإسعاد البشر جميعاً، فقد جاء في خطبة
النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع..." أيها الناس، إن
ربكم واحد، وكلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله
أتقاكم. ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد. فليبلغ الشلهد منكم الغائب...
والله الموفق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عودة للصفحة
أعلى الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------------
الدكتور أحمد الأبيض
عضو
الهيئة التأسيسية لحركة النهضة- تونس
ها إن حركة النهضة في تونس قد بلغت الأربعين من عمرها، أغلبها
محن وعذابات ومنافي، لكنها لم تفُت من عضد مناضليها ومناضلاتها
الذين أكدوا أنه
«من رحم الفجيعة والمعاناة، ومن عذابات المستضعفين وآلام طلائع
الحرية والمجاهدين يولد الفجر».
وها إن الشعب التونسي يرفعها إلى سدة الحكم، ويتوجها بأغلبية
ساحقة عبر انتخابات نزيهة وشفافة، ولعلها الأكثر نزاهة في
العالم حسب تصريح مراقبين دوليين. كما يلتف حولها الشباب من
كلا الجنسين بعشرات الآلاف.
فهل هو إعلان لنهاية سنين التيه في الأرض؟
أم هو تتويج للرشد الذي بلغته وأكد انغراسها في أرض الزيتونة
الطيبة، وأعطى إشارة الإنطلاق لربيع لا ينقضي: «حتى إذا بلغ
أشده وبلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت
على وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني
تبت إليك وأني من المسلمين» الأحقاف 15؟
كيف كان ذلك؟ وماهي الموجهات والخيارات التي حكمت تجربتها
السياسية؟
1-
في البدء كانت الجامعة:
كان أول إقتحام للمجال السياسي من طرف حركة الإتجاه
الإسلامي-النهضة لاحقا- في الجامعة التونسية أواسط سبعينيات
القرن الماضي، التي كان يسيطر عليها اليسار الماركسي، والذي لم
يكن يقبل ولا يتصور أن يكون هناك وجود لغيره، أو أن ينافسه
سواه، فهو المستأثر بالكلمة، والمحتكر للحركة والفكرة، فما
بالك إذا كان طلاب الانعتاق من الوصاية عليهم ينطلقون من
المرجعية الإسلامية.
فلقد رفع طلبة الاتجاه الإسلامي مطلب الحرية تحت شعار: «نريد
الحرية للجميع داخل الجامعة وخارجها». ولقد كلفهم ذلك الكثير
من التضحيات، وتحملوا الكثير من العنف المعنوي والجسدي الذي
مارسه عليهم اليسار الإستئصالي.. ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى
كان طلبة الاتجاه الإسلامي هم الفائزون بأغلبية مقاعد ممثلي
الطلبة في كامل الجامعة التونسية، وينجحون في تكوين التفاف
طلابي على الإتحاد العام التونسي للطلبة.
2-
أول بيان سياسي للحركة:
كان ذلك بمناسبة الإضراب العام الذي دعا إليه الإتحاد العام
التونسي للشغل في 26 جانفي 1978 وجاء فيه التأكيد على أن الشعب
لن يتصرف في الشأن العام تصرف الأحرار بدون ممارسة الحرية
كاملة غير منقوصة، ردا على خطاب السلطة المتحكمة في الرقاب
والبلاد، والمعتمد سياسة القطرة قطرة بدعوى تهيئة الشعب
تدريجيا ليكون حرا.
3-
الإعلان عن تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي 6 جوان 1881 الذي تم
التأكيد فيه مرة أخرى على مركزية الحرية للجميع، وعلى ضرورة
العودة للجماهير للتقرير في كل أمر يتعلق بالشأن العام،، الأمر
الذي دفع بعض الصحافيين للتساؤل عن موقف الحركة إذا ما فاز
الشيوعيون في الانتخابات؟ وكان الرد في غاية الوضوح والإنسجام
مع خيارات الحركة في الإيمان بالحرية، وبأن السلطة للشعب، وأنه
هو الذي يخول من ارتضاه لإدارة البلاد وفق ما طرحه من برنامج،
حيث نص بيان التأسيس على أن من مهام الحركة «أن تستعيد
الجماهير حقها المشروع في تقرير مصيرها بعيدا عن كل وصاية
داخلية أو هيمنة خارجية»، وكان الرد تبعا لذلك هو القبول
بنتائج كل انتخابات حرة ونزيهة، وأننا نعود لشعبنا، نتحاور معه
ونوضح له أطروحاتنا في حوارها وجدلها مع بقية الأطروحة
الموجودة على الساحة، ثقة بوعي الشعب،، وبقوة المقاربات
الإسلامية وحجتها البالغة،، وايمانا بأن الشعب الحر ليس قطيعا
يقاد بقهر السلطة، وإنما تستنهض همته بقوة الحجة ووضوح الرؤية.
4-
وانتصرت الجماهير:
كان رد السلطة على الإعلان الرسمي على تأسيس الحركة هو حملة
اعتقالات واسعة شملت أغلب قياداتها، وأحكام تجاوزت العشر سنوات
على كل واحد من رموزها. ولكن الإحتقان السياسي والاجتماعي ما
انفك عن التراكم حتى كانت ثورة الخبز 3 جانفي 1984 التي هزت
أركان السلطة، ولكن دهاء بورقيبة أخرجه من عنق الزجاجة من خلال
تراجعه عن إجراء الترفيع في ثمن الخبزة بقولته «نرجعو وين كنا
قبل الزيادات » (نرجع حيث كنا قبل الزيادات) من جهة، وإطلاق
سراح المعتقلين السياسيين الإسلاميين في الصائفة من نفس
العام.
5-
«خلوا بيننا وبين الناس»:
لكن إطلاق السراح هذا، توازى مع حملة إعلامية شنتها السلطة
والمتحالفون معها من قوى اليسار النافذ في أجهزة الإعلام وفي
السلطة نفسها. والمتهم للحركة بالظلامية والرجعية وما إلى ذلك
من نعوت... وتعود الحركة مرة أخرى للاحتماء بالجماهير، وفاء
لمقولاتها الإسلامية المكرسة لولاية الشعب، وأن لا وصاية
عليه... وضرورة التسليم بالوعي الشعبي الذي يتنامى بالتواصل
معه، ومن خلال تشريكه في الحراك السياسي أمرا بالمعروف ونهيا
عن المنكر،، ورفض كل تقرير من وراء الشعب أو اتهامه بالوعي
البقري.
ولذلك رفعت الحركة شعار الرساليين على امتداد تاريخ الظلم
والاستبداد: «خلوا بيننا وبين الناس». فإذا ما كنتم واثقين
بأنكم التنويريون والتقدميون والحداثيون فلماذا لا تثقون في
قدرة نور فكرتكم وأطروحاتكم على تبديد الظلمة المدعاة للفكر
والخيار الإسلاميين؟
ولكن السلطة بمباركة غربية قررت شن حملة اعتقالات واسعة على
الحركة،، التي نزلت قواعدها متظاهرة في الشوارع مطالبة بالحرية
للشعب، الأمر الذي هز بعنف أركان سلطة متهالكة ومتداعية
للسقوط.
وكان الانقلاب العسكري لبن على بتدبير غربي كما صرح بذلك جنرال
ايطالي أمام البرلمان الإيطالي.
ولئن قدم الانقلاب نفسه باعتباره جاء لإنقاذ البلاد، فإنه في
حقيقة الأمر لم يكن إلا إنقاذا للسلطة وتمديدا في أنفاس
الإستبداد.
6-
شهادة الزور:
دافع خطاب 7 نوفمبر 1987 عن مطالب المعارضة مما جعل الناس
يستبشرون خيرا، إلا أن انتخابات 2 أفريل 1989 أسقطت القناع،
وفضحت وجه الإستبداد الكريه لبن علي، وكانت حركة النهضة هي
التي فعلت ذلك.
إذ أنها قبلت أن تغير أسمها للتوافق مع قانون الأحزاب في كل
بنوده، هذا القانون الذي جاء لإقصائها... ورغم وعد بن علي
للشيخ راشد الغنوشي في لقائه معه يوم 6/11/1988 باإعتراف
بالحركة إلا أنه لم يفعل.. ورغم ذلك قبلت الحركة الدخول في
الانتخابات بقائمات مستقلة بقائمات ممثلة في عناصر من الصف
الثاني من قيادات الحركة. نظرا لحرمان الصف الأول من ذلك تبعا
لمحاكمات سنة 1987 التي طالت آلافا من أبناء وبنات الحركة.
وفازت قوائم الحركة بأغلبية في كل الدوائر التي ترشحت فيها بما
يقارب 90%
في الكثير من الدوائر.
ولم يكن أمام بن علي إلا أحد خيارين اثنين:
إما القبول بنتائج الانتخابات وتولي النهضة للسلطة.
وإما تزييف الانتخابات والسقوط المروع في أول اختبار حقيقي له.
وفضل السقوط، وافتضاح وجهه الإستبدادي الكريه.
7-
فرض الحريات:
هذا هو شعار خطة حركة النهضة بعد ذلك.
لاحظوا أن ذلك كان خطابها الداخلي والموجه لخيارتها السياسية
بغية إجبار السلطة على القبول بالحرية لهذا الشعب.. وكان مقتضى
هذه الخطة هو النزول للشوارع بالآلاف والاعتصام فيها وعدم
التزحزح عنها، حتى ولو أسالت القوة الغاشمة للسلطة الدماء
بسخاء فرعوني،، الأمر الذي ستتولى ثورة 14 جانفي 2011 القيام
به مستعينة بقوة الإعلام الفضائي والفيسبوك اللذان كان ينقصان
ثورة فرض الحريات في مطلع تسعينات القرن العشرين والتي بشرت
بها حركة النهضة، وكلفتها عذابات شديدة دامت عقدين من الزمن،
وطالت قرابة 30 ألف من أبنائها وبناتها بالسجن، وبالتشريد ما
يفوق عن 3000 في أكثر من 50 دولة، والمضايقات التي طالت عشرات
الآلاف من العائلات... ولكن مطلب الحرية ما انفك عن التردد في
الأرجاء، وما ملت الحناجر والأقلام التبشير بها.
وأذكتها العقول بتعميق النظر والتنظير في كتابات العديد من
مفكري الحركة داخل المعتقلات وخارجها أمثال الشيخ راشد
الغنوشي. د. عبد المجيد النجار، العجمي الوريمي،الدكتور أحمد
الأبيض...
8-
ثورة الياسمين:
أوغلت السلطة المستبدة في الغي الفرار، وطالت سَوْءاتها
(إساءاتها ) كل الفئات والشرائح الشعبية، وكاد العويل أن يرتفع
في كل بيت،، ومع مراكمة العذابات والتضحيات آن الأوان لفجر
الحرية أن ينبثق، وتم إسقاط الديكتاتور،، وسقطت معه فزاعة
التخويف من الإسلاميين الذين اثبتت الأيام أنغراسهم في صلب
الشعب،، وسقطت مشاريع الهيمنة الغربية على شعوب المنطقة
بالوكالة، وتم التسليم ولو ببعض المضض من قبل الدوائر المتنفذة
الغربية بالإسلاميين شريكا أساسيا في السلطة.
وكشفت حركة النهضة عن نضج كبير، ففي الوقت نفسه الذي كانت تنفض
عن نفسها ركام السنين العجاف، وتحاول أن تعيد نسغ الحياة
لبنائها الداخلي،، كان الشيخ راشد من لندن يحاول طمأنة دول
الجوار بأن الثورة ليس لها أي عداء مع أي كان، حتى يتم تفويت
كل محاولات الإجهاض للثورة من داخل النظام الرسمي العربي (نشير
بالمناسبة لإيصال الشيخ راشد مع سيف الإسلام القذافي بعد أن
كشف القذافي عن عداء بغيض للثورة).
ويمكن أن نتوقف عند المواقف التالية:
أ-
تأكيد خطاب النهضة على الاعتراف بالآخر، بل والتبشير
بتكوين حكومة ائتلاف وطني حتى في حالة الفوز بالأغلبية في
المجلس التأسيسي، وعن استعداد للتعاون مع كل القوى الوطنية،
وكل العناصر النظيفة، وكل الآمرين بالقسط من الناس للنهوض
بالبلاد.
ب-
الدعوة للعودة إلى الشعب ليكون فيصلا بين الفرقاء رغم
تغييب الحركة عنه وكل التشويه الذي مارسه الإعلام المأجور في
الداخل والخارج (تبين من سجلات وكالة الإتصال الخارجي التي تم
الكشف عنها مؤخرا أنها أنفقت مليارات الدنانير لتشويه صورة
الحركة عامة، والشيخ راشد الغنوشي خاصة، وتمعش الكثير من
رجالات الإعلام من ذلك مع ملاحظة أن القصد من ضرب الرمز هو ضرب
الفكرة والمشروع ).
ج- كان القبول بقانون انتخابي فرضته جهات تغريبية معادية
للمشروع الإسلامي من باب الإصرار على العودة للشعب وتوفيت
الفرص على كل المتآمرين على الثورة ومحاولات تأجيل الانتخابات.
د- إعداد برنامج انتخابي مثل نقلة نوعية في تاريخ الحركة
والبلاد. فلأول مرة تخرج الحركة من موقف المعارضة والكشف عن
سلبيات الواقع لانجاز مشروع تنمية شاملة في 365 نقطة يبشر
ب590000 موطن شغل بين سنتي 2012-2016- ضمن منوال تنموي تحكمه
معادلات رياضية مع معدل سنوي لنسبة النمو يصل 7%،
ومع انفتاح على رجال الأعمال، وعلى كل دول العالم تقريباً.
9-
انتخابات 23/10/2011:
شارك الشعب بإعداد غفيرة في هذه االإنتخابات، وبشكل غاية في
التحضر، حيث وقف الناس نساء ورجالا في طوابر لساعات طوال حتى
يصل الواحد منهم لصندوق الاقتراع، ودون تشويش أو مجاوزة
للغير..
وفازت حركة النهضة ب 62%
من الأصوات وب 41
%
من مقاعد المجلس التأسيسي( 89 مقعدا من بين 217) ورغم أنه بوسع
الحركة أن تكون لها أغلبية برلمانية مع بعض المستقلين الملتقين
معها في الرؤية والمشروع، فإنها بقيت حريصة على تكوين ائتلاف
حكومي مع أول حزبين يلياها في الظفر بمقاعد في المجلس الوطني
التأسيسي لتؤكد القدرة على التعايش والتكامل والإلتقاء على
برنامج تطرحه على شركاءها.
كما عبرت الحركة عن استعدادها للقبول ببعض الاستمرارية في بعض
المواقع لمسؤولين سابقين ما لم يتلوثوا بفساد أو ظلم.
أما مهزلة تخويف النساء من الإسلاميين ومحاولة تشويه المقاربة
الإسلامية للعلاقة بالنساء فقد باءت بالفشل، إذ فازت مرشحات
النهضة ب41 مقعدا من مقاعد المجلس التأسيسي من بين 49 مقعدا
فازت بها نساء. وكان الملاحظون في انتخابات 1989 قد لاحظوا أن
النهضة هي وحدها التي أقحمت النساء بكل قوة في العمل السياسي
والمشاركة في الشأن العام وهو ما أكدته مرة أخرى هذه
الأنتخابات، أضف إلى ذلك أن هناك أكثر من 600 من القيادات
النسائية في مختلف درجات القيادة في الحركة.
10-
الآتي في العمل السياسي والمشاركة في الشأن العام:
نشير إلى بعض ذلك بشكل برقي:
- استقرار للبلاد،
- انفتاح على رجال الأعمال في الداخل والخارج و على صيغ كثيرة
للإستثمار،،
- بدائل إسلامية للإستثمار،
- مقاومة الفساد،
- مشاريع خدماتية تلامس المواطنين في كل مجال من مجالات
الحياة،
- استقلالية القضاء،
عقيدة أمنية جديدة فيها تأكيد على دولة الشعب بديلا عن شعب
الدولة.
11-
بعض الموجهات المرجعية:
·
تكريم الإنسان ورفض أي أشكال
الانتهاك لأي من حرماته
« ولقد كرمنا بني آدم وحملناه في البر والبحر» الإسراء 70-
·
الحرية أول أمانة استأمن عليها الإنسان: « إنا عرضنا الأمانة
على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان
» الأحزاب 72-
·
الاستخلاف : الاستخلاف العام في السلطة والثروة.
وبالتالي فكل صاحب سلطة إنما هو مخول من طرف الشعب، وليس من
خاصة نفسه ولا لميزة له من دون الناس،، وليس أمامه من خيار إلا
أن يكون أجير الشعب ووفيا لشروط التولية، وأن عليه أن يقوم
بما ائتمنه الشعب عليه، وأنه لا تحق له طاعة بدون ذلك «إن
الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم إن الله كان سميعا بصيرا
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم.فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الأخر ذلك خير وأحسن تأويلا» النساء
58-59-
·
أقوى الرغبات أصالة في النفس الآدمية ثلاث:
حب الخلود أو غريزة حب البقاء
نزعة السمو والملائكية،
حب السلطة
«وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون من الخالدين»
الأعراف 20-
«قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى»طه 120-
فحب السلطة أصيل في كل نفس بشرية وكل تخل عن ذلك من تلقاء
الذات، أو إقصاء لها عنه، هو وضع استلابي وغربة عن إنسانية
الإنسان، أو عن مكون أصيل فيه. ولا بد من الخروج من هذا الوضع
بتحمل أمانة الاستخلاف والحرية، والإصرار على المشاركة في
الشأن العام، شهادة على العصر وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر.
·
واجب الشهادة على العصر:
وواجب الإدلاء بالشهادة في حق كل مترشح للسلطة حتى لا يُوََسدَ
الأمر إلى غير أهله «ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه ».البقرة 283-
·
قال عليه الصلاة والسلام: « إذا ضُيّعَت الأمانة فانتظر
الساعة... ولما سئل كيف تضيع الأمانة قال: إذا وُسد الأمر إلى
غير أهله فانتظر الساعة » البخاري
·
تزييف الانتخابات شهادة زور ومن أكبر الكبائر.
·
التوحيد أثبات للذات، وإثبات للأخر المختلف عنها، وإقرار
للحرية من خلال الكفر بكل الآلهة المزيفة.
·
عقد العزم على قتل الفقر: فلقد علمنا الرسول –ص- أن الفقر
كافر، وأن نستعيذ بالله صباح مساء من الكفر والفقر.... ولئن
لم تسمح الظروف التاريخية في فجر الإسلام بغير افترض طمس معالم
الفقر من خلال مقولة على بن أبي طالب: «لو كان الفقر رجلا
لقتلته»، فإنه صار بإمكان الحكم الرشيد بأن يطرح على نفسه وفي
آماد معقولة نسبيا قتل الفقر وتجفيف منابعه.
نتعبد الله بجعل الحياة الرغيدة ممكنة للآدميين السائرين على
خطى أبيهم آدم "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم
بركات من السماء والأرض".
عودة للصفحة
أعلى الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------------
الأستاذ أنس الفيتوري
عضو
المكتب التنفيذي لاتحاد ثوار ليبيا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في البداية أتقدم بالشكر
لمركز دراسات الشرق الأوسط لإتاحته الفرصة لنا للقاء بكم في
ندوة الإسلاميون والحكم، كما أتقدم أيضاً بالشكر لثوار ليبيا
الذين سمحوا لنا بلقاء هذه النخبة من الإخوة في الأردن وغيرها
من البلدان العربية.
سوف أتحدث عن مستقبل الإسلاميين في ليبيا بعد الثورة الليبية،
ولا بد لكي نعرف ما هو مستقبل الإسلاميين في ليبيا أن نمر على
الثورة الليبية، كيف أنها تميزت عن الثورتين، ثورة تونس ومصر،
وما لدخول العامل العسكري كعنصر حاسم للصراع مع نظام القذافي
من تأثير على المشهد السياسي المنتظر في ليبيا بعد القذافي.
الثورة الليبية طبعاً كما تعرفون عُسكرت بسبب قمع النظام في
بداية الانتفاضة التي كانت بدايتها مدن الشرق الليبي المهمش.
كما نعرف أن ثورة تونس ومصر هيأت لأجواء الثورة الليبية،
وتوافق شباب الثورة الليبية على تاريخ 17 فبراير (شباط) لأن
يكون موعداً للثورة الليبية، طبعاً لهذا التاريخ دلالة فكانت
هناك انتفاضة في 2006 من الليبيين إبان ظهور رسوم مسيئة للرسول
-صلى الله عليه وسلم- فخرج أهالي بنغازي في مظاهرات أمام
القنصلية الإيطالية وسقط عشرون شهيداً في ذلك التاريخ، فاختار
الشباب الليبيون هذا التاريخ لرمزية هذا الحدث المهم، فنجد
هناك ربط ما بين التوجه الإسلامي للثورة وما بين الثورة
الليبية.
عندما نتحدث عن هذه العسكرة عسكرة الثورة نجد أن وقودها
الشباب، ونجد أيضاً أن قادتها ممن تبنى كما نقول العامل
العسكري من الجماعة الإسلامية المقاتلة التي كانت تحاول إسقاط
النظام بالقوة في فترة التسعينات - في تسعينات القرن الماضي،
هذه الجماعة ساهمت بقوة في ذلك التاريخ لإسقاط النظام لكنها لم
يكن القاعدة الشعبية ولا الشعب الليبي على استعداد لإسقاط
النظام فخُمدت ثورة أولئك الشباب وانتهت، لكنها تأججت وانضم
لها قطاعات الشعب كما هو معروف وانطلقت جموع الثوار لتحرر
الشرق الليبي في مدة أربعة أيام، عندما سقط هذا الشرق الليبي
سقطت جميع مؤسسات الدولة، لأن الدولة كانت تعتمد المركزية
كعامل أساسي في إدارة البلاد، فبهذا السقوط نشأت فكرة المجالس
المحلية، فكان أول تمثيل للإسلاميين في هذه المجالس المحلية في
مدينة طبرق والبيضاء ودرنة والمرج وبنغازي وهذا الشريط الساحلي
هو يمثل مدن الشرق، فكان الإسلاميين لهم تمثيل في المعارضة
وسجناء الرأي السياسيين وكانت الغالبية ليست من الشباب بل كانت
من كبار المعارضين ومن كبار السياسيين الذين تعرضوا للاعتقال
في الفترات السابقة لحكم القذافي، إذن نجد أن هذه "المأسسة"
الأولى للثورة كانت بدخول الإسلاميين للمجالس المحلية.
أيضاً كانت هناك مصالحة ما بين النظام الليبي وجماعة الإخوان
المسلمين أتاحت للمعارضين من الإخوان المسلمين الرجوع للبلاد،
هؤلاء كانت لديهم خبرة في العمل الخيري والعمل الإغاثي التي
احتاجت إليها الثورة في بدايتها فتم إنشاء العديد من الجمعيات
والمؤسسات لتغطية جهاز الدولة الذي انهار بالكامل، ثم جاءت
فكرة تكوين جسم سياسي لهذه الثورة، هذه الفكرة كانت كما حدثنا
الإخوة من الاتجاهين أو الفريقين كانت فكرة موجودة لدى
الليبراليين و فكرة موجودة لدى الإسلاميين أن هناك لا بد من
شخصية توافقية يتوافق عليها الليبيين تقود المشهد السياسي، لكن
المبادرة هي أساس الفعل، بادر الليبراليين بالاتصال بالمستشار
مصطفى عبد الجليل، فتم اقتراح عمل "المجلس الوطني الانتقالي"
ليكون الجسم السياسي الممثل للثوار الليبيين، ولكي يأخذ
الاعترافات من الدول ويسحب البساط من نظام القذافي ويحسم هذا
الصراع لمصلحة الثورة الليبية.
كما قلنا إن تكوين المجلس كان بالتوافق على شخصية المستشار
مصطفى عبد الجليل وبداية التكوين لم يكن للإسلاميين دور وتمثيل
في هذا المجلس باعتبار كما قلنا أن المبادرة كانت من مجموعة من
الليبراليين، ولكن بعد دخول المناطق الغربية كانت المجالس
المحلية في المدن الغربية كمدينة مصراتة وطرابلس تمثل الإخوان
المسلمين، وتمثل قطاعات أخرى من اتجاهات إسلامية دخلت للمجلس
الوطني الانتقالي.
نعبر إذن إلى: ما هو المجلس الوطني الانتقالي؟ وما هو الشكل
على الأرض؟ نحن نعتبر الثورة اتجاهين؛ اتجاه عسكري غالبيته
إسلامية وغالبية قيادته إسلامية باستثناء منطقة مصراتة، وجسم
سياسي وهو يمثل جميع مراحل المجتمع الليبي وجميع اتجاهاته،
وأيضاً يحمل الكثير من الوطنيين، وأيضاً به من نظام القذافي
عناصر وأعضاء موجودة بالمجلس، المجلس الانتقالي الآن ينتقد
لأنه لم تكن هناك معايير واضحة لطريقة اختيار العناصر أو أعضاء
المجلس الوطني الانتقالي فكانت تتم بتزكية المجالس المحلية أو
باختيار شخصي من المستشار مصطفى عبد الجليل.
أيضاً هناك انتقادات للمجلس الوطني الانتقالي لأن اللائحة
التنظيمية غير واضحة لهذا المجلس، وصلاحيات المجلس في إدارة
الثوار أيضاً ليست بوضوح كامل، فالمجلس بعد فترة من العمل
ونظراً لأنه اتخذ جهازاً تنفيذياً كان يدير الأمور من خارج
ليبيا كان هناك فراغ حوّل أعضاء المجلس من الجانب التشريعي
والرقابي إلى الجانب التنفيذي فحول إلى مجموعة من اللجان
التنفيذية فمما وضعهم في موضع الانتقاد فيما يتعلق بفكرة الخلط
بين السلطات.
نمر إلى الإعلان الدستوري وهو الذي يرسم الخارطة السياسية
لليبيا وما هي الخطوات التي سينتهزها المجلس الوطني الانتقالي
بعد سقوط القذافي، هذا الإعلان الدستوري كان مشروعاً وطنياً
أطلقه الإسلاميون دعوا إلى أنه لا بد من مؤتمر تأسيسي يشابه ما
حصل في تونس، هذا المؤتمر التأسيسي يأتي بالانتخاب ولا يأتي
بالتكليف فهذا المشروع أُطلق من الدكتور علي الصلابي ومن
مجموعة من المناصرين من الاتجاه الإسلامي قادوا الطرح في ليبيا
عن طريق إمرار هذا المشروع في مؤسسات المجتمع المدني، وإمراره
في المحاضرات والندوات كانت غالبيتها في مدن الشرق الليبي
باعتبار أن مدن الغرب كانت معرضة للحصار، وبعد الضغط على
المجلس تم تبني هذا المشروع وأيضاً بعد حوارات كانت مع سفارات
أوروبية وغربية باعتبار أن علاقة الناتو ودخوله على الثورة
الليبية تم بعد مؤتمر اسطنبول تم تبني مشروع المؤتمر الوطني
الذي يؤسس لجمعية تأسيسية هذه الجمعية التأسيسية هي التي تقوم
بصياغة الدستور وهي التي تحدد شكل ليبيا في المستقبل.
الآن ما هي حظوظ الإسلاميين إذا كان المؤتمر الوطني العام
يأتي بالانتخاب؟ الإعلان الدستوري نص في فقرته الأولى على أن
ليبيا دولة مدنية ديمقراطية، ثم عرف هذه الديمقراطية بالتعددية
الحزبية، ثم جاء في الفقرة رقم 15 من الإعلان الدستوري ليحدد
بالتحديد أن حق تكوين الأحزاب مقبول في ليبيا، ونحن نعلم أن
ليبيا حتى في فترة الحكم الملكي لم يكن هناك قانون للأحزاب ولم
يكن هناك نظام حزبي بل كانت تقوم على المستقلين، الإعلان
الدستوري حدد في المادة ثلاثين أن خارطة الطريق لليبيا بعد
القذافي، أنه بعد ثمانية أشهر من إعلان التحرير -الذي تم
إعلانه في طرابلس بعد سقوط مدينة سرت- تعقد انتخابات، هذه
الانتخابات يكوّن منها مجلس تأسيسي وهو مسمى بالمؤتمر الوطني
العام من 200 عضو، لكن هذا الإعلان أغفل وإن كان ذكر في المادة
الأولى وفي المادة الرابعة والمادة الخامسة عشر "الأحزاب" لكنه
لم يذكر قانون للأحزاب في المادة ثلاثين التي تمثل خارطة
الطريق لليبيا، فالآن يقولون أننا نريد مؤتمر وطني عام من
المستقلين وهذا الأمر مطروح الآن في ليبيا للحوار والنقاش
وهناك ضغط من المجتمع المدني لموضوع أنه لا نكرر الخطأ للمجلس
الانتقالي فيكون المؤتمر أيضاً على شاكلة المجلس الانتقالي،
فيكون كله من المستقلين، بل قالوا نريد أحزاب، نريد قانون
للأحزاب، نريد أن نشيع هذه الثقافة الحزبية في المجتمع الليبي،
ونريد أن نقضي على أهم المشاكل والتحديات التي تعترض الثورة
الليبية وهي الجهوية والقبلية، وليس لنا سبيل في القضاء على
هذين الأمرين إلا بتبني البرنامج الحزبي الذي كل حزب يكون على
قاعدة شاملة لجميع المناطق والمدن.
من هم الإسلاميون المرشحون للحكم في ليبيا في الفترة القادمة؟
نعلم أنه أهم فصيل هو "الإخوان المسلمين"، أيضاً هناك مجموعة
من المستقلين مثل الدكتور علي الصلاّبي الذي يؤسس حزب اسمه
"التجمع الوطني"، وأيضاً هناك "جبهة التغيير" التي هي الجماعة
الإسلامية المقاتلة والتي قامت بمجموعة من المراجعات وغيرت
تسميتها والتي يمثلها عبد الحكيم بلحاج و"جبهة إنقاذ ليبيا"
فيها مجموعة من الإسلاميين، اليوم في ليبيا لم تعلن هذه
الأحزاب وفي هذا اليوم بالتحديد ينعقد مؤتمر عام للإخوان
المسلمين في ليبيا هذا المؤتمر سينتج عنه إحدى ثلاث خيارات:
إما أن الإخوان المسلمين يؤسسون حزباً خاصاً بالإخوان المسلمين
يمنع غيرهم من الدخول فيه، أو الخيار الثاني أنهم يؤسسون حزباً
ويجمعون من يريد الاتفاق على مبادئ هذا الحزب من غير الإخوان
من الدخول فيه، وإما أن يوصوا الإخوان المسلمين في الدخول
بالأحزاب الوطنية التي ستشكل في هذه الفترة.
بالنسبة للدكتور الصلابي كما تحدثنا أنه سوف يشكل حزباً من
الوطنيين ومستقل هذا الحزب عن الإخوان المسلمين، جبهة إنقاذ
ليبيا هي معروفة من الجبهات القتالية التي قادت العمل المعارض
لنظام القذافي من الخارج بها مجموعة من الإسلاميين، وقائد هذه
الجبهة هو الأستاذ محمد المقريف وهو يطرح مشروعاً وطنياً
لإنشاء حزب وطني يضم كافة الشرائح والأطياف، فالمراقبون الآن
بعد ما أنجز الإسلاميون على الأرض يتوقعون لو أنه حدثت
انتخابات على أساس الأحزاب سيكون للإسلاميون غالبية بما لهم من
قدرة على التأسيس، لكن هناك جناح داخل المجلس الوطني يعارض
بشدة بحجة أن الإسلاميون مستعدون ونحن لم نستعد بعد وأنه ليس
من الإنصاف أن نقوم بانتخابات على أساس حزبي يفوز به
الإسلاميون.
الآن الحوار والجدل في ليبيا كبير جداً، والتطلع من شباب
الثورة إلى أن تؤسس ليبيا حتى وإن أخذت وقت أطول هذه الثمانية
أشهر لم تكن كافية، يتمنى الشباب أن تمتد هذه الفترة لكي يعطى
لباقي الأحزاب فرصة لأن تنشئ قاعدتها وأن تعمل ما تستطيع من أن
تقدمه دعاية للمجتمع كي تحقق التوازن وكي تقوم في ليبيا هذه
الجمعية التأسيسية وتقوم بمشاركة جميع الأطياف، شكراً لحسن
الاستماع، وبارك الله فيكم.
عودة للصفحة
أعلى الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------------
الأستاذ حمزة منصور
الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي- الأردن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء
والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.. فإنا نشكر لأخينا
المفضال الأستاذ جواد الحمد ولمركز دراسات الشرق الأوسط عقدهم
هذه الندوة الهامة (الإسلاميون والحكم) التي جاءت في زمانها،
حيث يشهد وطننا العربي تحولات كبرى، تستهدف التغيير الشامل
لمناهج الحكم، أو الإصلاح الحقيقي في بنية النظام الذي يجعل
الشعب مصدر السلطة.
وإذا كنا لا نستطيع القول بوجود نظرية إسلامية متكاملة في
الحكم، متبناة من سائر الإسلاميين، فإننا نستطيع الجزم بوجود
رؤى وأفكار ومبادئ تصلح قاعدة لبناء نظرية إسلامية عصرية، تتفق
وأرقى ما توصل إليه الفكر الإنساني والتجربة الإنسانية من
مبادئ الحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية،
وتداول السلطة، واحترام إرادة الشعب في اختيار ممثليه وحكامه
ومراقبتهم ومحاسبتهم على هذه المبادئ والرؤى لا تخطئها العين
في كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي
التجربة الإسلامية في الحكم، ولاسيما في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وفي الأبحاث والدراسات
التي تصدت لنظام الحكم في الإسلام قديماً وحديثاً، وفي برامج
الأحزاب والحركات الإسلامية التي تؤمن بالمشاركة السياسية.
ويبقى التحدي قائماً للأحزاب الإسلامية والمفكرين والمجددين
لصياغة نظرية للحكم مستلهمة من المرجعية الإسلامية ومستفيدة من
التجربة الإنسانية، ومستجيبة لمصالح الشعوب.
وبالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نجد أن
مسألة الحكم تعد من الأصول الثابتة، التي لا يعدل عنها إلا
جاهل أو جاحد، لقول الله سبحانه ((وأن أحكم بينهم بما أنزل
الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله
إليك)) ونجد أن القرآن الكريم يميز بين منهجين في الحكم : حكم
الله حين يكون الكتاب والسنة المرجعية في الحكم وحكم الجاهلية
حين تحكم الأهواء والمصالح الضيقة ((أفحكم الجاهلية يبغون ومن
أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)). ويقدم نماذج للحكم الصالح،
ممثلة بالشورى والعدل والرحمة وأخرى للحكم الفاسد ممثلة
بالفساد والاستبداد والظلم. والقرآن يجعل الشورى صفة ملازمة
للمؤمنين ((وأمرهم شورى بينهم))، ولم يستثن من الالتزام بها
نبياً مرسلاً مؤيداً بالوحي ((وشاورهم بالأمر))، وحدد مؤهلات
القيادة ومقوماتها ((يا أبت استئجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين ))، فمؤهلات القيادة قوة وأمانة وعلم. كما حفلت السنة
المطهرة بالحديث عن الإمام العادل، والقائد الرحيم، والتزام
الشورى، ومعايير تولي المسؤولية، ونظراً لأهمية الحكم في
التصور الإسلامي فقد قدم الصحابة عليهم رضوان الله اختيار
الخليفة على تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه.
وتلقت الأمة هذه المبادئ بالقبول والتسليم، وألف فيها العلماء
المصنفات، ولم يغفل علماء المسلمين في العصر الحديث هذه
القضية، فألفوا فيها الكتب، التي تتحدث عن نظام الحكم في
الإسلام، والشورى والديموقراطية، والحريات وحقوق الإنسان في
الإسلام، والمجالس النيابية، وتولي منصب الوزارة. ولم يفرقوا
بين الدعوة للإسلام وإقامة الحكم الصالح وصون الحريات، يقول
الإمام حسن البنا رحمه الله (إذا قيل لكم إلام تدعون فقولوا
ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم،
والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه
سياسة، فقولوا هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام).
ومع إطلالة الربيع العربي، الذي هبت نسائمه من تونس، وترددت
أصداؤه في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وسائر الأقطار المنادية
بالتغيير أو الإصلاح، ومع بروز دور الإسلاميين في الثورات
العربية، والاستفتاءات والانتخابات التي تلتها، ارتفعت كثير من
الأصوات تحذر من وصول الإسلاميين إلى الحكم، وراح بعضها يدافع
عن الأنظمة الفاسدة والمستبدة حين ظهرت مؤشرات على أن
الإسلاميين هم البديل، وعبروا عن مخاوفهم تارة باسم الحرص على
الحريات العامة، وأخرى باسم الدفاع عن حقوق المرأة، وثالثة
باسم حقوق غير المسلمين، ورابعة باسم التمسك بالقيم
الديموقراطية، مستحضرين نماذج مشوهة وغريبة على الإسلام
كالثيوقراطية والانغلاق الفكري والتعصب ومعاداة المدنية
والحضارة. فهل الحكم الذي يتطلع إليه الإسلاميون ومارسه
أسلافهم في العهود الزاهرة، وعبروا عنه في برامجهم الانتخابية:
هو حكم رجال الدين، الذي عرفته أوروبا في العصور الوسطى، والذي
صادر الحريات، واضطهد العلماء، وحكم حكماً مطلقاً ؟ وهل عرف
الحكم الإسلامي اضطهاد غير المسلمين، ومارس التطهير العرقي
بحقهم كما فعلت ثقافات ومناهج حكم أخرى ؟ وهل ادعى خلفاء
المسلمين الراشدون وقادة الأحزاب السياسية أن الله اصطفاهم
لحكم العباد فهم لا يسألون عما يفعلون ؟، وهل أقر الإسلام
فاسداً أو مستبداً على سياسته ؟ وهل امتهنت كرامة المرأة في ظل
حكم إسلامي رشيد ؟. وللإجابة عن هذه الأسئلة نقول إن الحكم
الإسلامي كما نفهمه وندعو إليه يضمن الحريات للجميع، ولا يحصّن
أحداً من المساءلة، إذ لا سلطة بدون مساءلة، ويكفل العدالة
والمساواة لكل المستظلين بظله. يقول الدكتور يوسف القرضاوي
حفظه الله (الدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها
تاريخ المسلمين، دولة مدنية، تقوم السلطة فيها على البيعة
والاختيار والشورى، والحاكم فيها وكيل عن الأمة، وأجير لها،
ومن حق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد أن تراقبه وتحاسبه،
وتأمره وتنهاه، وتقومه إن اعوج، وإلا عزلته)، ويقول الدكتور
السنهوري: (والإمام يعتبر نائباً عن الأمة في إدارة شؤون
الدولة، ويستمد سلطانه منها، إذ أن الأمة مصدر السلطات، وصاحبة
الإرادة العليا في كل ما يتعلق بأمور الدولة) ويضيف (أن علماء
المسلمين وصلوا الى نظرية العقد الاجتماعي قبل أوروبا بقرون).
فالدولة الإسلامية في ضوء هذا الفهم وفي ما تتبناه الحركة
الإسلامية دولة مدنية بمرجعية إسلامية وليست دولة دينية
بالمفهوم الثيوقراطي، وهي دولة القانون والمؤسسات، وهي تقوم
على المواطنة في الحقوق والواجبات، دون تمييز بين المواطنين
بسبب الدين واللون والعرق، فالأمة مصدر السلطات، والشورى منهج
الحكم حيث استقر الفهم لدى الحركة الإسلامية بأنها ملزمة لا
معلمة، والعدل أساس الحكم، والناس سواء أمام القانون، والحقوق
والحريات مكفولة للجميع، والفصل بين السلطات قائم، فأي فضيلة
في الديموقراطية التي يتغنى بها دعاتها غير متضمنة في هذه
الرؤية؟ ويبقى للحكومة الإسلامية ما يميزها أنها مقيدة بقيد
الشرع الذي يمنع الحاكمين والمحكومين من الانطلاق وراء الأهواء
والشهوات، ولا يترك مقاييس العدالة بيد البشر ((وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل))، فهو العدل بين الناس جميعا على
اختلاف عقائدهم وأجناسهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية
ولعل من القضايا التي يثيرها شانئو الحكم الإسلامي أو جاهلوه
موقع غير المسلمين في ظل الحكم الإسلامي، والقضية هنا جاء
الفصل فيها من رب العزة بلسان عربي مبين ((لا ينهاكم الله عن
الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم
وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)) فهي علاقة بر وإقساط،
فهل هنالك مفردات أرق وأكرم من هذه المفردات ؟ وقد ترجمت هذه
العلاقة إلى حقائق تدب على الأرض، فحسبهم أن يقول فيهم النبي
صلى الله عليه وسلم ( من آذى ذمياً فأنا خصمه)، فغير المسلمين
حقوقهم مصونة بحكم المواطنة، فلهم حق التمتع بالحرية الشخصية
والفكرية والاقتصادية والاجتماعية وحسب المسلمين أن أول دولة
مدنية في التاريخ قامت على أساس المواطنة كانت دولة المدينة
التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الدكتور عبد
الكريم زيدان في كتابه (أحكام الذميين والمستأمنين) : (غير
المسلمين من مواطني البلاد الإسلامية من أفراد شعب دار
الإسلام، والدولة الإسلامية تأخذ بقاعدة المساواة في الحقوق
والواجبات بين المسلم والذمي، إلا ما كان مبنياً على قاعدة
دينية) وهذه حقائق شهد بها غير المسلمين، يقول السير توماس
آرنولد صاحب كتاب (تاريخ الدعوة إلى الإسلام) (قوائم الموظفين
الرسميين تضم مئات من المسيحيين).
ومن القضايا التي تثار في التخويف من وصول الإسلاميين إلى
الحكم أنهم يقبلون بالديموقراطية للوصول إلى السلطة، فإذا ما
وصلوا إليها استبدوا بها، وعملوا على إقصاء غيرهم. وهي دعوى لا
تستند إلى دليل، ولا تتفق وواقع الإسلاميين، الذين أكدوا أنهم
يسعون إلى الشراكة وعدم الإقصاء، وأنهم مؤمنون بتداول سلمي
للسلطة، حيث جاء في أولويات الإصلاح في الوثيقة الصادرة عن
الحركة الإسلامية عام 2005 بعنوان رؤية الحركة الإسلامية
للإصلاح في الأردن تحت رقم3 (تفعيل النص الدستوري الذي يؤكد
على أن الأمة مصدر السلطات، وهذا يقتضي إقرار مبدأ تداول
السلطة، وضمان نزاهة العملية الانتخابية بكل مراحلها، وفقاً
لقانون عادل، وإشراف قضائي كامل) كما جاء في الفقرة 10 من
الوثيقة (تشكيل الحكومات وفقاً لمبدأ تداول السلطة، وعلى أساس
البرامج التي تتقدم بها الكتل النيابية لنيل الثقة على أساسها)
كما جاء في الفقرة (5) منها (اعتماد مبادئ الديموقراطية
والشورى وأدواتها، بما فيها الاحتكام الى صناديق الاقتراع، وفق
قانون عادل، وإجراءات سليمة، والتداول السلمي للسلطة التنفيذية
نهجاً ثابتاً للحياة السياسية).
كما جاء في برنامج مرشحي حزب جبهة العمل الإسلامي للانتخابات
النيابية عام 2003 تحت بند (8) (اقرار مبدأ تداول السلطة
عملياً، وإتباع سياسة سليمه في تشكيل الحكومات).
كما جاء في أهداف حزب جبهة العمل إسلامي المنصوص عليها في
نظامه الأساس تحت بند 1/2/1 (تحقيق مبدأ الحرية المسؤولة
للجميع، وترسيخ أركان الشورى والممارسة الديموقراطية، وضمان
التعددية السياسية، وحماية حقوق الإنسان).
ولم يكتف الحزب بالتأكيد النظري على مبدأ الشراكة، وتداول
السلطة، وضمان حق الجميع في الوصول إليها عبر صناديق الاقتراع،
وإنما مارسها عملياً على الصعيدين الداخلي والخارجي، حيث نص
على أنه (لا يجوز انتخاب الأمين العام لأكثر من دورتين
متتاليتين) فتعاقب على هذا الموقع سبعة أمناء خلال أقل من
عشرين عاماً، كما مارس هذا المبدأ مع أحزاب المعارضة الوطنية
من خلال لجنة التنسيق العليا لأحزاب المعارضة. والإسلاميون إذ
يؤكدون التزامهم بمبدأ تداول السلطة، إنما ينطلقون من ثقتهم
بالشعب، وحقه في اختيار من يمثله، ويدير شؤونه، ومن رفضهم
القاطع للملك العضوض والجبرية، اللذين كانا مدخلاً خطيراً
للفساد والاستبداد، والانحراف عن هدي النبوة.
وثمة قضية على جانب من الأهمية يوظفها خصوم الإسلاميين تكمن في
تصور الإسلاميين للمرأة، زاعمين أن الإسلاميين لا ينزلون
المرأة المنزلة اللائقة بها، وهم في زعمهم هذا ينطلقون من سوء
فهم أو سوء نية. فالإسلاميون في هذه المسألة ينطلقون من أن
المرأة على نفس الدرجة من الكرامة الإنسانية مع الرجل ((يا
أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)) ((فاستجاب لهم ربهم أني
لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض)) (النساء
شقائق الرجال) وانطلاقاً من هذا الفهم، فقد نص النظام الأساسي
لحزب جبهة العمل الإسلامي في البند 1/2/9 من أهدافه على
(احترام كيان المرأة، وحقوقها المشروعة، ودورها في تطوير
المجتمع، في إطار الفضائل الإسلامية، وإفساح المجال أمامها
للمشاركة في الحياة العامة، وإتاحة الفرصة لبروز القيادات
النسائية في العمل العام)، وأفرد لها باباً في برامجه
الانتخابية، ومما جاء في هذا الباب (التأكيد على حقوق المرأة
الشرعية من خلال تفعيل التشريعات المنصفة لها، واستكمال الإطار
التشريعي المعزز لحقوقها) و(توظيف طاقات المرأة في العمل
العام، وإبراز دورها في بناء المجتمع، وتحقيق المشروع النهضوي
العربي الإسلامي للأمة، من خلال مشاركتها الفعالة في جميع
مجالات العمل التنموي والعمل السياسي). كما أفرد لها مساحة
واسعة في رؤية الحركة الإسلامية للإصلاح، ومما جاء فيها
(المرأة تتمتع بكامل الحقوق السياسية، المتمثلة في حق الانتخاب
والترشح، وتولي المناصب، والانضمام للأحزاب السياسية، وإبداء
الرأي في كل جوانب الحياة بلا استثناء) وفي ضوء هذه النصوص
دخلت المرأة مجالس الشورى، واللجان المركزية، والانتخابات
النيابية، والحراك الشعبي للإصلاح، ولا يوجد عائق تشريعي يحول
دون تسلمها موقعاً قيادياً في السلطة التنفيذية.
أيها الإخوة الكرام: إن الإسلاميين من نبت هذا الوطن، ومن نتاج
الحضارة العربية الإسلامية، وهم يترسمون خطا النبي الكريم صلى
الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين المهديين، الذين ملأوا الأرض
عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وأقاموا مجتمع الخير والعدل والتراحم
والتكافل، فسعدوا وأسعدوا، وهم منفتحون على كل الأفكار
والتيارات والتجارب الإنسانية والعلوم والمعارف، وهم يقدرون
منجزات الحضارة ويبنون عليها، وهم مؤمنون بالاحتكام إلى صناديق
الاقتراع، والتعاون مع الآخر، على قاعدة: (نتعاون فيما اتفقنا
عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه) وشعارهم رأيي صواب
يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ويرحبون بالنصيحة
والنقد والمساءلة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عودة للصفحة
أعلى الصفحة
--------------------------------------------------------------------------------------
الأستاذ جواد الحمد
مدير
عام مركز دراسات الشرق الأوسط - الأردن
أصحاب المعالي والسعادة والعطوفة والسيادة
،
الزملاء الباحثون ، السادة والسيدات ،، لقد دخلنا اليوم عصرا
جديدا ومرحلة جديدا من دور الأمة الرائد في السباق الحضاري
والتنافس على زعامة العالم الذي جعل من ميدان التحرير في مصر
مثلا يحتذى لكل مظلوم في هذا العالم، وصحيح أن المسار يواجه
الكثير من العقبات والتحديات، بل وتشوبه بعض الخلافات
والقراءات والرؤى، غير أن الطريق قد بدأت تختط معالمه على
الصعيد السياسي بشكل غير مسبوق، وبرغم التخوفات المشروعة من
تدخل الأجنبي ودوره المشبوه المحتمل في إعادة رسم المشهد
والتدخل في مخرجات الثورات والحراكات الإصلاحية والسياسية، إلا
أن المحصلة العامة للمسار لا تزال تصب في صالح النهضة والتقدم
الديمقراطي على طريق التنمية والريادة والاستقلال والحرية.
لقد رسم الأمريكيون في أواخر القرن العشرين مسارهم الاستراتيجي
ليكون القرن الجديد الحادي والعشرون القرن الأمريكي الخالص،
وحاولت إسرائيل بنفوذها الدولي وإمكاناتها العسكرية أن تفرض
هيمنتها الأمنية والعسكرية على العالم العربي، وساهمت أوروبا
ودول أخرى في العالم في السعي لنهب ثروات الأمة وسلبها حريتها
واستقلالها بالضغوط رغبة ورهبة، وشكلت الولايات المتحدة ببرامج
ومساعدات مالية وغيرها جيوبا متقدمة في أوطاننا أعدتها لتكون
بديلا للأنظمة الحاكمة عندما تسقط أو تنتهي صلاحيتها شعبيا أو
دوليا على حد سواء، ولتحول دون نجاح أي عملية تغيير جادة في
بلادنا، ولعل القراءة المتفحصة لمشروع الشرق الأوسط الكبير
الذي أطلقه المحافظون الجدد في الولايات المتحدة وبتعاون دولي
قد شكل محاولة أكبر لتكريس واقع الهيمنة والتخلف في آن واحد،
ولم يحمل في طياته إلا المحافظة على مصالح الولايات المتحدة،
ولكنه تحطم على صخرة المقاومة الفكرية والسياسية والاجتماعية،
بل وبسواعد المقاومة اللبنانية والفلسطينية في حربي عامي 2006
و2009 اللتين هزمت فيهما إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة شر
هزيمة على المستوى المرحلي.
لقد فاجأت الشعوب العربية العالم بانتفاضتها على الظلم
والاستبداد والفساد من قبل النخب السياسية الحاكمة، تماما كما
أسست واقعا جديدا على المستويين الإقليمي والدولي، بعيدا عن
الهيمنة الدولية بكل مستوياتها، والذي يؤمل أن يوصل إلى
الاستقلال والحرية الوطنية، كما التحلل من الهيمنة والتبعية
الدولية، ودخلت مرحلة بناء العلاقة مع الآخرين على قدم
المساواة، وتعمل اليوم بسواعد شبابها ورجالها ونسائها على
إعادة الاعتبار للأمة التي مسخها قادتها وزعماؤها أمام العالم
لأكثر من مائة عام.
أيها الإخوة والأخوات
عقد مركز دراسات الشرق الأوسط في الأردن قبل عامين مؤتمرا لبحث
مشاريع التغيير الخارجية والداخلية في المنطقة، المعادية منها
والصالحة، وقد اتضح لدى المؤتمر حينها أن المعطيات القائمة
توفر فرصا مواتية لإحداث عملية تغيير حقيقي في بنية دولنا
وعالمنا العربي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن
القوى الأساسية الحاكمة أصبحت في أغلب الدول فاقدة للشرعية،
وتعتاش على خدمة مصالح الغرب، وأن ظروفها السياسية تشكل حالة
هشة، وأن الغرب قد بدأ يشعر بهذه الحقيقة، ما دفعه لتقديم
مشاريع احتوائية قبل أن تتقدم المشاريع الوطنية والعروبية
والإسلامية لتحل محلها، وقد اتفق المؤتمر على أن الديناميكية
الممكنة للتغيير على الصعيد الوطني والقومي هي المشروع العروبي
القومي والمشروع الإسلامي، وقد دعا المؤتمر بوضوح إلى أهمية
بناء مشروع مشترك بين التيارين الإسلامي والقومي على قواسم
تحقق مصالح الأمة العليا لتحقيق غايات التغيير المنشودة، وقد
شهدنا يومها حماسا شديدا من مؤيدي التيارين لهذا التوجه، وقد
شكل المؤتمر وبحوثه ونتائجه مرحلة تحول في التفكير الاستراتيجي
في المنطقة لدى القوى العربية المناهضة للاستبداد والظلم،
والتي ترفض المشروع الصهيوني والهيمنة الإمبريالية على
منطقتنا، ولذلك مثلت الحراكات الإصلاحية والانتفاضات على
الاستبداد والثورات العربية حاملا طبيعيا لمشروع مشترك بين
التيارين الإسلامي والقومي، وما بعض الخلافات التفصيلية وإن
علت أصواتها أحيانا إلا مرحلة عابرة يرجى أن لا تؤثر على
المخرجات النهائية لهذه العمليات التغييرية الصعبة وربما
الجراحية لاورام الاستبداد والظلم الطويلة في بلادنا.
إن لعمية التحول الجارية في العالم العربي مراحل ثلاثا لا بد
أن تمر بها، الأولى هي مرحلة الانتفاض والثورة على النخب
الحاكمة التي تصر على الاستبداد والظلم والفساد والولاء
للأجنبي حيث وجد، ولا ترضى بالقيام بالإصلاحات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والتعبير عن إرادة الأمة الحرة،
والثانية مرحلة المعركة السياسية والاجتماعية مع فلول الأنظمة
البائدة ومع جيوب الإمبريالية الأمريكية المتحالفة معها أو
البديلة عنها، تلك التي تتحصن في الكثير من المواقع بين صفوف
أمتنا، وبأكثر من شكل، وهي تعتاش على التمويل والدعم الغربي
الذي يحدد أجنداتها وتوجهاتها وبرامجها بما يخدم مصالحه
وتطلعاته، والثالثة مرحلة تأسيس الدولة وتحريرها من قبضة
الاستبداد عبر بناء نظام ديمقراطي تعددي مستقل وحر يستند إلى
شرعية شعبية حقيقية، ويمثل تطلعات الشعوب ومصالحها وقضاياها
القطرية والقومية على حد سواء.
لقد اتضح منذ بدايات العام 2011 أن رياح التغيير الخيرة التي
هبت في تونس إنما تحمل في طياتها عملية تغيير حقيقية وفق
ديناميكيات التغيير الاجتماعي الخاصة بالأمة، والتي كانت تصاحب
انعطافات فجائية لا يتوقعها الكثيرون عبر التاريخ، ومَثَّل
نجاحها باجتياز أسوار مصر العالية، والتي تمثل قلب العروبة
ومركز قيادتها، مثّل تحولا تاريخيا قويا تخطى كل الخطوط
والسدود التي رسمت على مدى عقود في هذا الوطن العربي الأبي،
تلك التي تمثل مصالح القوى الحاكمة وحلفائها الدوليين بعيدا عن
مصالح الأمة وحقوقها، وبذلك اجتازت الثورة العربية الخط
الأحمر، كما تجاوزت محاولات التشويه والتشكيك بإمكانية النجاح
أو بطبيعة المشروع والتيار الحامل له.
السادة والسيدات
لقد ظهرت الكثير من المؤشرات على إمكانية تقدم التيار الإسلامي
في بعض البلدان العربية التي انتهت فيها الثورة من المرحلة
الأولى ليكون عاملا أساسيا في قيادة دفة البلاد، وسارعت القوى
الغربية والجيوب التابعة لها وفلول الأنظمة البائدة إلى
التخويف من هذه الظاهرة، حتى تأثر البعض منا ليعتقد بأن العالم
العربي سوف ينهار ويُقضى عليه إذا حكم الإسلاميون أو حتى
شاركوا في الحكم، وبرغم محاولات التطمين التي قدمها التيار
الإسلامي في كل من مصر وتونس على وجه التحيديد غير أن التشكيك
وإثارة الغبار استمر، سواء بحسن نية وحرصا على الصالح العام،
أو بسوء نية بهدف إحداث الفتنة في الأمة.
ولم تتكمن التيارات الوطنية والقومية الأساسية، العروبية منها
واليسارية والإسلامية، أن توحد جهودها لمواجهة هذه الظاهرة إلا
من قلة من الحكماء من مختلف التيارات، وظل الحوار يتعامل مع
الشبهات والشكوك كحقائق، بل ومضى البعض ليضع الفرضيات الخيالية
والنظرية، وهو يحشد لها مقالة هنا وتصريحا هناك، ويسجل سقطة
هنا أو خطأ هناك، ناهيك عن تحريف الكلم عن مواضعه، وهو ما أعطى
فرصة لجماعات الثورة المضادة أن تتنفس وتتحرك، وهو كذلك ما شجع
الولايات المتحدة والغرب على سرعة إعادة التموضع للحضور في
المشهد القادم والتأثير فيه وبمخرجاته، ولمنع الشعب والأمة من
قطف ثمار تضحياتها على مدى عقود.
ولذلك كان التعجيل بعقد هذه الندوة العلمية بعنوان: الإسلاميون
والحكم، ليكون الحوار بين الجميع على أسس علمية ووفق مصالح
الأمة العليا، ولو اختلفت المقاربات، وربما المعلومات أحيانا
في النظر إليها، وليتم تبادل الرأي بين أطياف الأمة المختلفة
الإسلامية واليسارية والقومية والليبرالية حول كيفية اجتياز
المرحلة، في ظل تحقيق فهم مشترك أوسع، وتعاون وشراكة وطنية
وقومية وإسلامية على حد سواء، ما دام التيار الإسلامي سيكون
عاملا فاعلا وأساسيا في مرحلة الحكم الجديدة.
وبرغم الصعوبات التي واجهت عقد هذه الندوة على كل المستويات،
غير أن ما تحقق اليوم باجتماعكم هذا يمثل أكثر من 60% مما خطط
له، ولذلك فإن مسئولية هذه الثلة المختارة من أبناء هذه الأمة،
والتي تمثل النخب السياسية والقيادية في أكثر من أحد عشر قطرا
عربيا، أن تنجح في بحث موقف الإسلاميين من المرحلة القادمة ومن
الحكم والشراكة في الحكم، وأن تعالج فكريا وسياسيا العديد من
المسائل المهمة المتعلقة بطبيعة النظام السياسي المرجو تحقيقه
فيما عرف بالدولة المدنية وموقع الشريعة الإسلامية منها،
والتوصل إلى أفضل الرؤى حول أهمية تداول السلطة والتعددية
واحترام الآخر والانفتاح بين الجميع، وأن تكون الدولة للجيمع،
وتحقيق الشفافية العالية في العمل الحكومي والحزبي على حد
سواء، والسعي لبلورة أنظمة سياسية تحقق للأمة أن تكون مصدر
السلطات، وتمنع الاستبداد وتفشي الفساد والظلم، وأن تقيم العدل
والمساواة بين الناس، وأن تجعل من المواطنة العربية نموذجا
جديدا يتفوق على النموذج الغربي ببناء الإنسان الصالح بكل
جوانبه، وكذا التوصل إلى رؤية عربية مشتركة للتعامل مع القوى
الإقليمية والدولية ومواجهة التحديات بمختلف أنواعها، حتى تكون
الثورات بالفعل نقلة تاريخية كما نقرأها من حيث المبدأ، وحتى
تقيم هذه النخب للأجيال القادمة حالة متقدمة من المشروع
الحضاري النهضوي لهذه الأمة الرائدة، ولتعيد لها دورها العالمي
في مضمار التنافس الحضاري بين الأمم.
الإخوة والأخوات،،
إن مرحلة التحول الكبيرة التي تمر بها أمتنا إنما هي ثمرة
الكفاح والتضحيات التي قدمتها الأجيال على مدى العقود الماضية
بأشكال مختلفة، وهي معركة الوجود والاستقلال والحرية والكرامة
والتحرر، وإن الاجيال الجديدة التي عبرت عن وعي كبير بدورها
الرائد في هذه الثورات والانتفاضات والإصلاحات إنما تشير إلى
أن التضحيات التي قدمت لم تكن عبثا، وإن التواصل الاجتماعي
والتاريخي بين الأجيال إنما يشكل رافعة مهمة للمستقبل، وهو ما
يدفعنا إلى وضع الاهتمام بقطاع الشباب في سلم الأولويات في
المرحلة القادمة على صعيد البناء الوطني، لتكون الأمة بشبابها
وشيبها قوة عالمية تُحترَم وتحمي مصالح الأمة وتمنع العبث بها
من الآخرين.
والسلام علكيم ورحمة الله وبركاته
عودة للصفحة
أعلى الصفحة