كلمة الأستاذ محمد صوان

أيها الإخوة والأخوات الحضور الكرام،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بانعقاد مؤتمرنا هذا لبحث مستقبل حركة التجديد في واقع الأمة الإسلامية واعادة القاطرة إلى السكة بعد أن انحرفت عنه بدخول جحافل الغزو الغربي لديار الإسلام مع وصول بوارج الحملة الفرنسية على مصر بقيادة الأمبراطور بونابرت عام 1798 م إلى شواطئ الإسنكدرية، حيث قام باقصاء الشريعة الإسلامية عن سدة الحكم، في حادثة لم تقع في تاريخ دولة الإسلام إلا مرة واحدة بسقوط الخلافة تحت سنابك خيل هولاكو عام ( 656هـ - 1258م)وقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله. وفي كل مرة كانت حركة تجديد المجتمع الإسلامي تنبعث لتصحيح مسار التاريخ،وإعادة الأمور إلى نصابها بتحكيم الشريعة وجعلها النظام العام للمجتمع والدولة والمرجعية السامية العليا لهما، وأخذت اشكال النضال من أجل ذلك صور وانماط متعددة منها ما اتسم بالنضال السلمي منخفض الوتيرة ومنها ما كان نضالا مسلحا وقوة خشنة مباشرة استخدمت ضد الاستعمار الخارجي أو الاستبداد الداخلي، يعضدها محاولات عديدة اخذت شكل المبادرات الفردية في اطار محدود وجانب من جوانب التجديد. وهكذا انقسمتالنخب السياسية والفكريةبوقوع جريمة اقصاء الشريعة على يد بونابرت عن سدة الحكم في مصر، انقسم الشارع السياسي في حادثة غير مسبوقة في تاريخ الأمة الإسلامية إلى تيار علماني يرى أن تكون الدولة علمانيةيفصل فيها الدين عن ملامسة أي جانب من جوانبها، وتيار اسلامي يرى أن الدولة لا يجب أن تخرج عن مظلة مرجعية الشريعة، وتجسد ذلك في حالة رفض كامل لفكرة علمنة الدولة على أساس أن ذلك ينقض صريح احكام الشريعة المحكمة التي تتناول جوانب وشؤون الدولة، وما يتصل بها من نظم فرعية مثل النظام التشريعي، والنظام القضائي، والنظام السياسي، والنظام الاقتصادي وما يتصل به من سياسات تجارية ومالية ونقدية، وشؤون السلم والحرب والعلاقات الدولية، وقضايا الحقوق والواجبات والحريات العامة والخاصة، مما يجعل من الشريعة ليس فقط مصدرا للتشريع بل ونظاما عاما للفرد والمجتمع والدولة سواء بسواء. وكان مستند حركة تجديد الدين في كل ذلك ما ورد به النص الصحيح في الحديث الذي رواه أبوداود عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، ومن منطلق الخصائص والسمات العامة للدين الإسلامي التي تميزه عن سائر الأديان، ومن خلال طبيعة نصوصه وتشريعاته التي تجعل من الرافد السياسي أحد روافد اقامة الدين في واقع الناس والمجتمعات الإنسانية بمعناه ودلالاته الإسلامية، البعيدة عن كل الدلالات الكهوناتية السابقة، برز الرافد السياسي كعلامة فارقة ومميزة لحركة التجديد في شكل مبادرات السياسي لمناهضة التبعية للخارج تارة وللاستبداد السياسي الداخلي، أو لتصحيح هوية ومرجعية الدولة ونظامها العام بعد اقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم تارة أخرى، ويمكن للمتابع المنصف لتاريخ حركة التجديد أن يلاحظ بسهولة ويسر أن الرافد السياسي لم يكن شكلا من أشكال الدين أو الإسلام المنعزل عن بقية الروافد والجوانب الأخرى، بل هو مجرد جانب من جوانب الإسلام وشأن من شؤونه المتعددة الاجتماعي منها والثقافي والروحي والاقتصادي والسلوكي، ونشاط من نشاطاته الفردية منها والاجتماعية، ومن هنا أود التنبيه على اللبس الذي قد توهم به عبارة "الإسلام السياسي"، وهذا التصحيح يلزمنا هنا كجزء من تصحيح الانحرافات الكثيرة التي طرأت في واقع الأمة من ناحية المفاهيم والتصورات التي جاء بها الإسلام، وفي تقديري أنها تحتاج منا لتقديم التصور الصحيح للمصطلحات وما تنطوي عليه من معان قد تحرف المعاني الأصلية التي جاء بها الإسلام من حيث الأصل، الأمر الذي وصل إلى ذروته في التلبس بأن يتجرأ زعيم عربي بأنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. أما بخصوص محاور هذا المؤتمر الحافل فهي وكما هو معلوم من حركة التجديد بالضرورة ليست بالمحاور الجديدة، بل تمثل هموم ومشاغل وتحديات طرقت في عدة مؤتمرات سابقة منذ منتصف سبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وطرح فيها العديد من الأوراق البحثية من المتخصصين وقيادات الفكر الإسلامي ومدارسه الحديثة المعنية بالتنظير لترشيد مسيرة التيار الإسلامي من أمثال العلامة الدكتور القرضاوي حفظه الله، والشيخ الغزالي عليه رحمة الله، والشيخ فيصل مولوي عليه رحمة الله، والأستاذ راشد الغنوشي حفظه الله، والدكتور حسن الترابي، والدكتور عبدالكريم زيدان، والشيخ محفوظ النحناح عليه رحمة الله، والأستاذ المودودي والشيخ أبو الحسن الندوي من القارة الهندية، وغيرهم من عشرات البحاث وقادة الفكر والمهتمين بظاهرة الإحياء الإسلامي مما لا يتسع المجال لحصرهم جميعا هنا. وإن يكن لي من تعقيب هنا فهو وقفة مع ظاهرة جديدة في عالم السياسة!، ليس السياسة الشرعية الإسلامية فقط ولا المحلية فقط، بل السياسة كنشاط انساني يومي في سائر المجتمعات الإنسانية، وهي ظاهرة يمكن ان نطلق عليها " سياسة الشارع" أو "أجندة الشارع"!، بمعني حركة المواطنين في الشارع لفرض أجندة سياسية، تبدأ من مستوى بسيط يتمثل في مطالب اجتماعية وتتصاعد حتى تصبح هديرا على أبواب القصور والبرلمانات وسائر مؤسسات الدولة ومقرات الأحزاب الحاكمة، ومثل التيار الشعبي الهادر ظاهرة تسونامي يجتاح المنظومات التقليدية القديمة ليحضر رجل الشارع ويعطيه زمام الأمور، حدث هذا أولا فيما يعرف بالثوارات الملونة في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين عام 1989م، ثم عشناه وعاصرناه واقعا متحركا متصاعد فيما يعرف بثورات الربيع العربي، وشاهدنا كيف تهاوت الأنظمة الواحد تلو الأخر تحت وقع زحف الجموع واعتصاماتها في الشوارع والميادين العامة، مما اضطر بعض الزعماء للهروب والبعض الأخر للتنحي، ولم يجد العناد من اصر على التنكيل بأبناء شعبه من السقوط شيئا، شاهد العالم مصارع أولئك الطغاة على شاشات القنوات المختلفة ليكونوا لمن خلفهم عبرة وآية، بأن عصرا جديدا يمكن أن يطلق عليه عصر المبادرة الشعبية للحكم. وهذا الواقع يطرح على التيار الإسلامي حزمة جديدة ونوعا جديدا من التساؤلات، تختلف في طبيعتها عن تلك التي كانت تطرح عليه أيام نضاله ضد الاستبداد الداخلي عبر تنظيمات نخبوية وكوادر مدربة على فنون العمل السياسي سواء من خلال السعي للوصول إلى اغلبيات برلماناية أو السعي للمشاركة في الحكم عن طريق الأسلوب الديمقراطي، أو عبر العمل العسكري المسلح كما حدث في التجربة السودانية.

وهنا يمكننا أن نقول إن التيار الإسلامي اليوم يعيش مرحلة ما بعد شعار الإسلام هو الحل، لأنه فعلا صار رد الاعتبار للشريعة الإسلامية كنظام عام ومرجعية تشريعية سامية مطلبا شعبيا لأن الجماهير استردت زمام أمورها وصارت مصدرا لسلطات وهو جوهر مقاصد الشريعة الإسلامية منذ فجر نزول الوحي وتأسيس دولته، فهو اليوم يواجه سؤال التموقع وسط هذا الحراك الشعبي الهادر الذي يسعى هو الأخر لتثبيت الشريعة الإسلامية في المكانة اللائقة بها وسط منظومة الدولة، فما هي طبيعة مستقبل علاقة التيار الإسلامي بتيار الشارع؟ وكيف سيضبط العلاقة بمكوناته المختلفة؟ وعلى أي أساس سيترشح لقيادة جهاز الدولة؟ وكيف سيقدم نفسه لمهمة الحكم وقد قال الشارع كلمته في أبرز شعارات التيار الاسلامي المتمثلة في الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية؟ وكيف ستضبط علاقته بالتيار العلماني الذي عجز عن استقطاب الشارع وركن إلى العسكر في صراعه مع التيار الإسلامي؟ وكيف ستكون العلاقة بين التيار الإسلامي وبقايا الأنظمة السابقة مما يعرف بالدولة العميقة؟ وبدون شك هناك متغير في استحقاقات التدخل الخارجي ليأخذ شكل التخطيط المباشر ومباركة الثوارات المضادة وإعطائها الفرصة بالسكوت عليها لتقوم بمهمة تصفية التيار الإسلامي وعزله عن المحيط الشعبي الذي يعيش فيه، عبر شيطنته وعزله تمهيدا لاستئصاله لاحقا، ثم توفير الغطاء المالي لحركة الثورة المضادة، والدعوة للتعامل معها كأمر واقع والاقرار بشرعية تصرفاتها وما تقوم به من محاكمات للتيار الذي تم انتخابه وفوزه سياسيا في أول انتخابات نزيه وشفافة في تاريخ المنطقة. أيها الإخوة والأخوات المشهد لم ينضج بعد، وما نزال نعيش مخاضا قاسيا لتحولات عديدة لاحقة، ولا أظن أننا نشهد اليوم الفصل الأخير، بل ما تزال هناك عدة فصول للحكم النهائي على هذه التجربة الجديدة ليست على التيار الإسلامي فقط بل على التيار العلماني بجناحيه اليساري والليبرالي، والنظم السياسية التقليدية القائمة في المنطقة، وما زال السؤال يطرح نفسه هل استفادت تلك النظم وتلك التيارات من النتائج الأولية لثورات الربيع العربي؟. هذا ما نود أن يركز عليه لأنه يمثل الحالة الراهنة أو الشأن السياسي الجاري واعطائه الأولوية على السرد التاريخي لتجارب المشاركة السياسية سواء تلك التي اعتمدت على اسلوب المشاركة أو تلك التي كانت تعتمد على المغالبة.

اشكر لكم منحي فسحة الحديث وحسن الاستماع، والله الموفق.