كلمة الأستاذ حمزة منصور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أستهل كلمتي بتوجيه الشكر لمركز دراسات الشرق الأوسط، ممثلاً بمديره العام الأستاذ جواد الحمد، لعقد هذا المؤتمر الهام في زمانه ومضمونه، وفي مستوى المشاركة والحضور فيه، وهو الذي عودنا على عقد المؤتمرات والندوات والصالونات السياسية، والإصدارات المميزة في مختلف القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، القضية المركزية للأمة، وسبب الصراع الدائر والمستمر في المنطقة.

وأرحب بالإخوة الفضلاء ضيوف المركز ضيوف الأردن، سائلاً المولى عز وجل لهم طيب الإقامة، والإسهام الواسع في إثراء هذا المؤتمر الهام، وصولاً الى رؤى وتصورات وتوصيات تسهم في تحقيق الإصلاح الحقيقي والشامل في وطننا العربي يعيد إليه دوره الحقيقي بين الأمم .

أيها الإخوة الفضلاء
إذا كان لكل مرحلة عنوانها، فان عنوان هذه المرحلة صعود حركات الإسلام السياسي، حيث يتصدر الحديث عنها نشرات الأخبار، وعناوين الصحف، واهتمامات الباحثين والأجهزة الاستخبارية، ليس على مستوى الوطن العربي فحسب، وإنما على المستويين الإقليمي والدولي. فبعد عقود من الزمن تلت رحيل الاستعمار عن معظم الأرض العربية، وان لم يختف تأثيره على مجمل الأحداث فيها، حكمت الدول العربية بأنظمة أقل ما يقال فيها أنها نأت بنفسها عن الإسلام كنظام حياة، وتراوحت مواقفها بين القبول بالتدين الفردي الذي لا يلامس الحياة العامة، والسعي لتغريب المجتمع، وتغييب السمت الإسلامي الذي غدا تهمة تستحق المساءلة والعقاب في بعض الأقطار، وان لجأ بعضها أحياناً الى توظيف العاطفة الدينية لدى المسلمين لتحقيق أهداف سياسية معينة، ليظهر بمظهر المحب للدين والمتدينين ثم لا يلبث بعد تحقيق أهدافه أن يعود سيرته الأولى .

أما الإسلام السياسي، أو بعبارة أدق الإسلام الشامل المتكامل كما تفهمه حركات الاسلام السياسي كما أراده الله، والذي يعني نظام حياة الى جانب العقيدة والعبادة، فقد استهدف أيما استهداف في الوطن العربي، وإن على درجات مختلفة، تراوحت بين تحجيم الإسلاميين وإقصائهم عن الوظائف الهامة، وبين الزج بهم في السجون، ومطاردتهم وتهجيرهم وقتلهم، وإغلاق مقارهم، ومصادرة ممتلكاتهم. ولكن هذه السياسة ما كانت لتحول دون قيام الإسلاميين بواجبهم الشرعي والوطني في الدعوة الى الله، والتربية على قيم الأمة، وكسب الأنصار. وقد أكسبهم ذلك تعاطفاً وقبولاً لدى الجماهير، فكلما جرت انتخابات فيها قدر من النزاهة برز دور الإسلاميين كقوة شعبية منظمة قادرة على المنافسة، وان كان هذا الظهور يبقى دائماً تحت المراقبة الرسمية الدائمة مخافة أن يتعاظم الى مديات تقلق النظام .

وقد شكل الربيع العربي الذي انطلق من تونس، مبشراً بعصر الشعوب، وإنهاء الأنظمة الدكتاتورية، وكسر حاجز الخوف، رصيداً جديداً للقوى الحزبية والمجتمعية في نضالها من أجل تحقيق الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية .

وقد برز دور الإسلاميين واضحاً في ثورات الربيع العربي أو الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح، إن على صعيد الحشد والتنظيم، أو سعة القاعدة الشعبية، مع عدم اغفال دور مختلف القوى السياسية والجماهير الشعبية، باستثناء القطاعات المرتبطة بالأنظمة، والمستفيدة منها. والى هنا ظلت القوى الشعبية والحزبية متناغمة ومتشاركة، ولاسيما في الأقطار التي رفع فيها شعار إسقاط النظام .

وما أن بدأ الإعداد للانتخابات، والشروع بالحملات الانتخابية، حتى تمايزت الصفوف، وعاد الاستقطاب الأيدولوجي، مذكراً بمرحلة التناقض بين التيارات السياسية والحزبية، وبظهور نتائج الانتخابات عادت التيارات السياسية الى سابق عهدها، ولم يتسن بناء تحالفات عريضة في المرحلة الانتقالية، تهيء لديموقراطية حقيقية، تخرج البلاد من حالة التخلف التي فرضتها الانقلابات العسكرية، والأنظمة الرجعية، ما عدا تونس التي نجح فيها الإسلاميون بعقد شراكة مع حزبين آخرين، وان كانت هذه الشراكة، أو حكومة ما بعد الثورة ما تزال في عين العاصفة .

إن وصول الإسلام السياسي الى سدة الحكم، أو المشاركة الفاعلة فيه، وتصدر حملته المشهد في الأقطار التي تبنت شعار إصلاح النظام، ألب عليها قوى وتيارات سياسية، وأنظمة حكم إقليمية ودولية، وكانت أبرز تجليات هذا المشهد في مصر وتونس وغزة .

حيث تجمعت هذه القوى، مع أنصار النظام السابق، والقوى المتضررة من الديموقراطية، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، وقوى الفساد التي أثرت على حساب الشعب، والدولة العميقة بإعلامها ومؤسساتها، التي ربيت على كره الإسلام، ومعاداة الإسلاميين، وبدعم من أقطار شكل الربيع العربي لديها هاجساً مخافة أن يمتد إليها، كما أرعبها قيام نظام إسلامي ديموقراطي، ولم تكن الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني غائبين عن المشهد، وإن من وراء ستار. كل هذه القوى مجتمعة قامت بالانقلاب على الشرعية الدستورية والشعبية في مصر، وتسعى جاهدة لتحقيق الهدف ذاته في أكثر من قطر لإجهاض الدولة الوليدة، أو الثورة التي تعمل جاهدة لتحقيق أهدافها .

ولسائل أن يسأل : ما الذي جمع ثوار الربيع العربي، وفلول النظام السابق، وأنظمة عربية ودولية، ووحدهم لإجهاض الثورة؟ وهو سؤال مشروع، وجدير بالتوقف عنده طويلاً وبوضع النقاط على الحروف في الإجابة عنه .

ولنبدأ بالقوى الحزبية، التي دخلت في منافسة مع الإسلاميين، ولم تنل حظا وافرا في صناديق الاقتراع، وهذه القوى فيها المتعطش للسلطة حيث كان جزءاً منها في فترات سابقة، ويسعى لاستعادة دور عجزت إمكاناته عن بلوغه، وبعضها يمتلك طموحات شخصية، حال صندوق الاقتراع دون تحقيقها، وبعضها يخشى من تجذر الديموقراطية وتفعيل أدوات الرقابة والمحاسبة، فيطبق عليه قانون من أين لك هذا ؟ وبعضها لديه هواجس من حكم الإسلاميين لاعتبارات طائفية أو مسلكية. هذا على الصعيد الداخلي، أما على صعيد الأنظمة العربية، حيث حكم العائلة، والتفرد في السلطة، وغياب الإرادة الوطنية، فهؤلاء مخاوفهم مضاعفة، بعضها ناشيء من الإسلام ذاته حين يطبق بحق، وبعضها يعود إلى الخوف من الديموقراطية، وكلتا المخافتين تقض مضاجعهم، فالنموذج الإسلامي الحقيقي يعري ادعاءهم الزائف بتطبيق الإسلام، والنظام الديموقراطي سيجعلهم مجرد مواطنين، لهم ما للناس، وعليهم ما على الناس .

أما الكيان الصهيوني العنصري التوسعي، فهو يدرك أن وجوده على الأرض العربية طارئ، وانه ما كان له أن يستقر ويتمدد لو كان العرب موحدين مستقلي الإرادة، فظهور نظام يؤمن بوحدة الأمة، ومركزية القضية الفلسطينية، والاستقلال الحقيقي الناجز، وبناء القوة الحقيقية ببعديها المدني والعسكري، كل ذلك يشكل نهاية المشروع الصهيوني. أما الإدارة الأمريكية، التي تفردت بالسيطرة على العالم، واعتادت سوق النظام الرسمي العربي لمعاركها الخاصة، واستنزاف ثروات العرب، فقد استشعرت خطورة نظام جديد يتحرر من هيمنتها، ويسعى لبناء مشروع عربي حقيقي. إن هذا الوصف ، ان كان يمثل الحالة المصرية بشكل خاص إلا أنه يصدق على ما سواها، وما الحصار الظالم على غزة، ومحاولة خنقها، لترفع راية الاستسلام، وما السكوت على الإبادة الجماعية في سوريا، وتهجير شعبها، وتدمير مقدراتها، والانشغال بالأسلحة الكيماوية وتجاهل مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعتقلين، إلا لضمان مصالح تل أبيب، وللاطمئنان على وريث للنظام على المقاس الأمريكي الصهيوني .

إن هذه التحديات المحلية والإقليمية والدولية تفرض على حملة المشروع السياسي الإسلامي مسؤوليات جسيمة، إن هم أرادوا أن يحققوا مشروعهم لإنقاذ الأمة، واستعادة دورها الحضاري العظيم، الذي اضطلعت به القرون الطوال، يوم كان غيرها يرسف في أغلال الجهل والفقر والتخلف .

ومن أجل ذلك فأنني أرى أن يتصدر اهتمامات الإسلاميين ما يلي :

  1. فهم الواقع بتشعباته وتعقيداته على مختلف الصعد المحلية والإقليمية والدولية، وفهم الواقع لا يعني الخضوع للواقع والاستسلام له، وإنما اعتماد الوسائل والأساليب والسياسات القادرة على مواجهة الواقع وتطويعه لمشروعها. ففهم أولويات الشعوب، وواقعها الاقتصادي والاجتماعي، ودوافع القوى المعاكسة، وتأثير الدولة العميقة، ضرورة قصوى، ومقدمة ضرورية للنجاح، بينما يقود الإسراف في التوقعات وإغداق الوعود، والاستهانة بخصوم الداخل وأعداء الخارج، وحسن الظن الذي لا يستند إلى قواعد سليمة إلى إخفاق ذريع .
  2. تبني مشروع على مستوى الأمة، وليس على المستوى القطري فحسب، فخصوصية كل قطر ينبغي ألا تكون سبباً في حصره داخل القطر، فنحن أمة واحدة، قضاياها واحدة، ومصيرنا واحد. وهذا يحتم امتلاك رؤية واقعية على مستوى الأمة، فالمشروع القطري المعزول عن عمقه العربي والإسلامي لا يصمد في مواجهة قوى الشد العكسي في الداخل والخارج، فحصر القضية الفلسطينية بالشعب الفلسطيني، أو بجزء منه، شكل كارثة عليها وأوصلها إلى ما وصلت إليه، وفتح شهية العدو الصهيوني توسيع أهدافه، والتمادي في طغيانه، ووقوف السودان وحيدا في مواجهة الكيد العالمي، وسلبية الأشقاء وحساباتهم الصغيرة أسلم إلى انفصال الجنوب، وتهديد وحدته الوطنية، وإعاقة مشاريعه التنموية .
  3. امتلاك مقومات إدارة الدولة، فإدارة الدولة ليست كإدارة التنظيم أو المؤسسة، فهي علم وفن وخبرة. وهذا يحتم على حملة المشروع إعداد الإدارات المؤهلة لإدارة مفاصل الدولة، وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء المؤهلون من أفراد التنظيم، فحيثما توافرت القوة والأمانة فهي رصيد للأمة وضمانة للنجاح .
  4. تقديم التطمينات اللازمة لمختلف شرائح المجتمع، فالمشروع الإسلامي ليس لطائفة أو تيار أو حزب، ولكنه مشروع للوطن بكل مكوناته، والتطمين المقصود ليس شعارا لفظيا، ولكنه واقع معاش، ولدينا من نصوص الكتاب والسنة، والتطبيقات العملية الحصيفة في العصور الإسلامية الزاهرة ما يؤكد أن الدولة الإسلامية دولة المواطنة، وان الحرية فيها في أبهى تجلياتها، وأن الفن ليس مرفوضا لذاته، وأن المرأة شقيقة الرجل وشريكته في الحياة، وفي حمل المشروع، وأن غير المسلمين من مواطني الدولة إخوة في الإنسانية والمواطنة وشركاء في المشروع الحضاري وإدارة الدولة، وأن لا سلطة بغير إرادة شعبية طليقة، وأن العقائد مصونة، وأن الإبداع في مختلف المجالات مقدر أنى كان مصدره شريطة الانسجام مع ثوابت الأمة ومصالحها العليا.
  5. امتلاك الإعلام المكافئ، حيث ازدادت أهمية الإعلام في الآونة الأخيرة في توجيه الرأي العام لدرجة غير مسبوقة، وأصبح رأس المال يتحكم بالآلة الإعلامية إلى حد بعيد. وهذا يرتب على حملة المشروع الإسلامي أن يمتلكوا إعلاما متنوعا وفاعلا، قادرا على الوصول إلى جميع شرائح المجتمع وعلى حمل المشروع، والذود عنه، وكسب الأنصار له .
  6. ترميم العلاقة بين مختلف التيارات والتي تصدعت للعوامل المشار إليها، وعلى قاعدة حماية الوطن، والحفاظ على المسيرة الديموقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة، وليس على قاعدة المحاصصة، بل السعي لبناء شراكة على القواسم المشتركة في برامجها .
  7. الاحتفاظ بالثقة بالنفس وبالأمة، وعدم الخضوع بسبب إخفاق هنا أوهناك للحظة الراهنة، واعتبارها محطة مراجعة وتقويم لتعزيز الايجابيات، واستبعاد السلبيات، واستلهام الدروس من تجارب سابقة لثورات اعترتها ظروف مشابهة، وتمكنت من تجاوز الظروف والعقبات، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها وأهلها .

وأخيرا وليس آخرا فإن المشروع الإسلامي اليوم ضرورة وطنية وقومية وعالمية، بعد أن دفعت البشرية الثمن غاليا جراء طغيان النظرة المادية، وإدارة الظهر لرسالة السماء، المستندة إلى العدل المطلق، فالله لا يحابي فريقا دون فريق، فالخلق كلهم عياله، والى العلم المطلق، فحقائق القرآن لا تتناقض مع الحقائق العلمية، والى الوسطية التي هي سمة للنهج الإسلامي، والتوازن بحيث لا يضحى بجانب لصالح جانب، والاتساق مع الفطرة الإنسانية، لأنهما يخرجان من مشكاة واحدة. بينما أوصلتنا المناهج الوضعية المقطوعة الصلة بالله إلى ما أوصلتنا إليه من فرقة وضعف وفقر وخضوع للأجنبي. وإننا لعلى يقين أن أمتنا أمة الخلود ما تمسكت بأسباب الخيرية { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } .

وقد وعد الله سبحانه بالتمكين لنهجه في الحياة، لتملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا، وليتحرر الإنسان من كل أشكال العبودية الزائفة ولتنطلق طاقات الإنسان تعمل في جو يسوده الأمن والكفاية والعدل والتراحم .

وحين نتحدث عن المشروع الإسلامي، أو الإسلام السياسي، بالتعبير المتداول اليوم، فإننا لا نتحدث عن مشروع لفئة أو حزب أو تيار، وإنما نتحدث عن مشروع للأمة، كل الأمة، بل للبشرية، كل البشرية، وصدق الله العظيم القائل { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } .

وهذا يرتب على كل منتم للأمة، حريص عليها، ألا يكون معيقاً لهذا المشروع، إن لم يكن شريكا فيه وذلك أضعف الإيمان .

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته